نحو حوكمة وطنية عادلة

mainThumb

20-05-2025 12:03 AM

في قلب التحديات الاقتصادية الأردنية، لا تكمن المشكلة فقط في ارتفاع الدين العام أو نسب البطالة والفقر، بل في وجود منظومة اقتصادية غير عادلة تتسع فيها الفجوة بين فئة قليلة من المستفيدين وبقية المجتمع، حيث تتغلغل النخب الاقتصادية في مفاصل الدولة، وتُراكم النفوذ والثروة، بينما يتقلص دور المواطن إلى دافع ضرائب يرزح تحت عبء الغلاء والاقتراض والخدمات المتراجعة.

تشير نظرية "الوكالة" في الاقتصاد إلى احتمال تعارض المصالح بين من يديرون المؤسسات ومن يملكونها، ويبدو أن هذه الفجوة تتجلى في بعض المؤسسات العامة، حيث لا يُعامل المواطن كشريك فعلي في اتخاذ القرار، بل كطرف يتحمل الأعباء دون تمكينه من المحاسبة والمساءلة الفعّالة.

مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 يعكس هذا التحدي، إذ حصل الأردن على 49 نقطة من أصل 100، وهو مستوى مستقر نسبيًا منذ عقود، لكنه لا يواكب حجم الخطاب الإصلاحي الرسمي، وهذا الاستقرار في الترتيب يدل على الحاجة إلى أدوات رقابة أكثر استقلالية وفاعلية، خاصة في ما يتعلق بالعقود العامة والإنفاق الحكومي.

كما يُظهر تقرير صندوق النقد الدولي الأخير وجود فجوات في شفافية العقود وتخصيص الموارد، داعيًا إلى تعزيز النشر العلني للبيانات المالية وتحسين الحوكمة في الشراكات مع القطاع الخاص، وتؤكد هذه التوصيات الحاجة إلى إصلاحات مؤسسية تضمن المساءلة وتحد من تضارب المصالح.

في قطاع التمويل، تشير بيانات البنك المركزي إلى أن أكثر من 50% من الائتمان المصرفي يذهب لتمويل الحكومة، ما يؤدي إلى ما يسمى "تزاحم تمويلي"، حيث تُزاحم الدولة القطاع الخاص على مصادر التمويل، وتضعف قدرة المشاريع الصغيرة والمتوسطة على النمو والتوسع، رغم أهميتها في خلق فرص العمل.

أما في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، فقد تراجع ترتيب الأردن من المرتبة 63 في عام 2018 إلى 75 في آخر تقرير صدر عام 2020، وهذا التراجع يعكس تحديات تنظيمية وبيروقراطية، إلى جانب الحاجة إلى إصلاحات تشريعية وإدارية تعزز بيئة الأعمال وتحفّز الاستثمار.

وفي الوقت نفسه، لا يزال المواطن يواجه أسعارًا مرتفعة في العديد من السلع الأساسية، رغم استقرارها عالميًا، ويعود ذلك في جزء منه إلى ضعف المنافسة، واحتكار بعض السلع من قبل فئة محدودة من التجار، مما يعكس اختلالًا في توزيع النفوذ الاقتصادي.

إن تحسين البيئة الاقتصادية يتطلب أكثر من إصلاحات تقنية، بل يحتاج إلى تعزيز مبدأ الحوكمة الوطنية، التي تضمن الشفافية والمحاسبة، وتحمي الموارد العامة من سوء الاستخدام، كما يتطلب الأمر مراجعة دور المؤسسات الرقابية ومنحها صلاحيات حقيقية، إلى جانب تطوير سياسات مالية عادلة تشمل ضرائب تصاعدية على الأرباح الكبيرة، وتشجيع الاستثمارات في الإنتاج المحلي.

في نهاية المطاف، ليس الهدف إضعاف الثقة بالمؤسسات، بل العكس تمامًا: ترسيخها على أسس عادلة وشفافة تعزز الثقة، وتعيد رسم العلاقة بين المواطن والدولة بما يضمن التوازن بين الحقوق والواجبات، ويُمكّن الأردن من تجاوز أزماته بثقة واستقرار.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد