انتبه! أنت على وشك مجابهة نفسك: بونين

mainThumb

04-06-2025 02:45 AM

لحظة ميلاد أي شخص هي تلك الوقفة السريعة التي تسبق وضعه قسريًا على مطمار «سباق لعبور الحواجز»، سباق يتميَّز بالشراسة ويستهدف الروح والعقل. وأمَّا الحواجز، فهي شتى وغير متوقعة، لدرجة أن الفرد قد يخرج بعد اجتياز أي واحد منها فاقدًا لشيء من روحه وعقله، أو حتى أيضًا جسده. وكثيرًا ما نسمع مقولة «ما لا يقْتِل، يُقوِّي» أو «الصدمات مصنع الرجال»، لكن هذا هو الجانب المشرق فقط، فالقليل هم من يعبأون بهؤلاء الذين لطمتهم الحياة بقوة هائلة عجزوا بعدها على تخطي الحواجز بكفاءة، أو فقدوا بعدها السيطرة على مسارهم الطبيعي، ووجدوا بعدها أنفسهم قابعين بجوار الحاجز، وإن كان ذلك يحدث بدرجات متفاوتة.
وتحدَّثت عن هذا الموضوع الطبيبة النفسية «إليزابث كوبلر-روس» Elizabeth Kübler-Ross (1926-2004) في كتابها الشهير «عن الموت والاحتضار» On Death and Dying (1969)؛ حيث ناقشت مفهوم الصدمات النفسية والحزن من خلال دراسة حالات متفاوتة من المرضى التي تشرف على حالتهم، وفي متن الكتاب، ذكرت العديد من الأمثلة التي تعزز مفهومها.
والصدمة النفسية ما هي إلَّا استجابة عاطفية لحدث سلبي خلَّف وراءه رواسب نفسية كبرى جعلت الشخص المُبتلى بها لا يستطيع تخطيها بصورة إيجابية. والأحداث الصادمة غالبًا ما تشمل الاعتداء الجسدي أو ألوان من الإيذاء الجسدي والنفسي مثل الضرب أو السباب، أو الاعتداء الجنسي، أو القتال في زمن الحرب. ويمتد أثر الأحداث الصادمة إلى مشاهدة أعمال عنف لم تمس الفرد من قريب أو بعيد، مثل مشاهد الموت والعمليات الإرهابية والتعذيب أو القتل أو حتى إيذاء الحيوانات؛ فجميعها مشاهد مؤلمة وتترك أثرًا بالغًا في نفس أي فرد، حتى ولو ادعى عكس ذلك.
ومن خلال عملها مع المرضى الميؤوس من شفائهم، طوَّرت الطبيبة النفسية «إليزابث كوبلر-روس» نموذجًا يصف المراحل التي يمرّ بها الفرد المُصاب بمرض لا أمل في شفائه للتعامل مع وفاته الحتمية، وكذلك طبَّقت نفس تلك الاستراتيجية على أصدقاء المريض وعائلته الذين أيضًا أصابهم ذاك الخبر بالصدمة، وذلك لأنها لاحظت أنهم يمرون عمليًا بنفس المراحل تلك التي يخوضها المريض، وهذا لون من ألوان الدفاع النفسي لإبعاد تأثير الصدمة عليهم، ولقد تم تسمية استراتيجيتها بـ «نموذج كوبلر-روس» Kübler-Ross Model الذي ينطبق على جميع ألوان الصدمات النفسية، وليس فقط الموت المحتوم من جرَّاء الإصابة بمرض عضال لا أمل في شفائه. في المرحلة الأولى يدرك الفرد ضرورة الدفاع عن كينونته، وحينها ينكر تأثُّره بالخبر؛ وذلك لأنه يوقن بأن ما يقال له هو غير صحيح. ولهذا السبب، يصبح الملاذ المريح هو التمسُّك بواقع زائف، قد يصل لدرجة الانعزال الطوعي؛ لتلافي تقبُّل ما يمرون به من صدمة وترد نفسي. ويلاحظ أن الحياة الحديثة والتقدُّم التكنولوجي يساهمان بقدر كبير في تفاقم مرحلة الإنكار؛ حيث أصبح الموت والمرض أكثر رعبًا وذعرًا للآخرين.
وفي المرحلة التالية ينتاب الفرد الغضب لأنه أدرك عدم قدرته على الاستمرار في تمثيلية الإنكار الوهمية تلك، لكنه في الوقت نفسه يكون غاضبًا من نزول ذاك الابتلاء به فقط من دون الآخرين، ما يشعره بأنه واقع تحت طائلة ظلم كبير. ومن ثمَّ، يبدأ في صب جام غضبه على كل من حوله أو حتى من يقابله في مسيرته؛ تنفيثًا لما يجول في نفسه من شعور بالظلم والإحباط. ولعل الكثيرين يمرُّون بتلك المرحلة حينما يدفعهم الانفعال الزائف من موقفِ ما إلى صب جام الغضب على أي فرد أو أي شيء تقع عليه العين. وحينما يتخطى الفرد غضبه، يبدأ في مساومة نفسه على أمل الوصول إلى تسوية مع نفسه تجعله يقتنع بأن ذاك الموقف بوابة العبور لحياة أفضل أو التحلِّي بقوَّة أكبر لمقاومة الشدائد التالية.
لكن عندما يدرك الفرد أنه يخدع نفسه؛ لأنه مهما يحاول أن يثبت لنفسه أن لديه القدرة على تخطِّي الشعور بالألم، تداهمه مشاعر الحزن والفقد. وبالتالي، يدخل في المرحلة الرابعة، وهي الاكتئاب أو اليأس لتأكده أن ليس باستطاعته فعل شيء لتغيير واقعه. وحينها قد يتقوقع على ذاته ويرفض الاختلاط بالآخرين. لكن مع الوقت، قد يتجاوز الفرد تلك المرحلة ويتقبَّل واقعه كما هو، وتلك هي المرحلة الخامسة والأخيرة من نموذج «كوبلر-روس»، التي يبدأ فيها الفرد في التعايش مع ما ابتلي به.
واجتياز تلك المراحل، في حد ذاته، هو طريق التعافي السليم من تأثير الصدمات النفسية، التي بعدها يستطيع الإنسان ممارسة حياته بقوة وصلابة أكثر. وعلى النقيض، يوجد بعض قد يعلقون في مرحلة دون الأخرى، وربما يكونون من الهشاشة النفسية التي تجعلهم غير مؤهلين لتجاوز حتى المرحلة الأولى.
وبملاحظة الألوان الأدبية التي يقدِّمها الكاتب الروسي «إيفان بونين» Ivan Bunin (1870-1953)، نجد أنه آثر في جميع مؤلَّفاته الأدبية جانب التحليل النفسي الذي صاحب لونه الأدبي الواقعي الصادم، بل إنه اشتهر بأنه الامتداد الحديث لكل من «فيودور دوستويفسكي» و»ليو تولستوي». وفي غمار أعماله، تنبلج كيفية تعامل شخوصه مع صدمات الواقع. وبالتحليل، يلاحظ أن ليس كل الشخوص استطاعت تجاوز مراحل التعافي من الصدمات، أي ما يسمى «نموذج كوبلر-روس».
وحياة «بونين» نفسها عبارة عن صدمات متتالية، لكن نجاحاته كانت أكثر من إخفاقاته التي استطاع تجاوز أغلبها، وليس جميعها. وسيرة حياة «بونين» الطويلة التي تجاوزت الثمانية عقود حقًا جديرة بالملاحظة. فلقد نشأ في أسرة أرستقراطية نبيلة، لكنه لم يملك منها سوى اللقب والأصل العريق؛ حيث كانت الأسرة تعاني من ضيق في الموارد المالية، لدرجة أجبرت «بونين» على الطرد من الجامعة، حينما آثر ألَّا يؤوب للجامعة بعد الأجازة الصيفية؛ بسبب أنه لم يمتلك مصروفات الدراسة.
إلَّا أن تلك التجربة لم تثنه عن مواصلة السير في طريقه؛ فلقد نشأ في أسرة بها شعراء مشهورون، ولذلك أصبح في بداية مسيرته الأدبية شاعرًا، واشتهر بقدرته الفائقة على اختيار الكلمات والصور، على نفس غرار الكلاسيكيات الروسية، مما كان يعرضه لانتقادات واسعة واتهامه بأن يكتب للخاصة بسبب لغته الراقية ذات الألفاظ دقيقة الاختيار، وكذلك أيضًا لاختياره موضوعات تتحدَّث عن الطبقات النبيلة. لكن هذا لم يهن من عزمه، وواصل التأليف، فحصلت عدَّة من دواوينه على جائزة «بوشكين» ثلاث مرَّات. ولقد استطاع «بونين» تكوين صداقات مع كبار الكتَّاب الكبار المعاصرين له، وكان صديقًا شخصيًا للقاص «أنتون تشيخوف». بل إنه كان من المتحمسين الشديدين لنموذج وأعمال الروائي العظيم «ليو تولستوي» الذي أصبح صديقًا شخصيًا له، وآمن بأسلوبه في الكتابة الذي يمس حياة القرويين. ولهذا، ألَّف أشعارًا ونثرًا عن حياة الريف. ووصل حد إيمانه بأفكار «تولستوي» بأنه تم القبض عليه وهو يوزِّع أعماله الأدبية المجرَّم نشرها. وبالفعل، حكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، لكنه نجا بأعجوبة من العقوبة بعد استصدار عفو عن المحكوم عليهم في قضايا رأي بمناسبة تنصيب القيصر «نيكولاس الثاني». وكانت نقطة التحوُّل في مسيرته الأدبية عندما نصحه «تولستوي» بألَّا يغرق في حياة القرويين. وبإعادة النظر، خلص أن نظرة «تولستوي» بالفعل تأمل صنع يوتوبيا مستحيلة التنفيذ.
وبعد استراحة محارب استمرت عامين، خرج «بونين» كاتبًا رائعًا للنثر ومؤلِّفًا فريدًا للروايات والقصص القصيرة، وجال بموهبته تلك إلى أن استقرت به الحال في فرنسا، وهناك حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1933، وأصبح أوَّل أديب روسي ينال شرف الحصول على تلك الجائزة، التي كانت بمثابة تكريم لكل من سبقه من كتَّاب عظام أضاءوا له الطريق ودفعوه لأن يسير على دربهم. فلقد اشتهر بامتلاك براعة فنية صارمة وميل عند كتابة النثر والشعر لانتهاج أساليب الأدب الروسي الكلاسيكي، لكنه كان فريدًا في أسلوبه الذي لا يجعله، كما يؤكِّد هو ذاته، لا ينتمي لأي مدرسة أدبية؛ فهو بعيد عن التجريب والرمزية والرومانسية والإغراق في الطبيعة (تيار الطبيعية Naturalism)، لكنه مجرَّد كاتب شديد الواقعية لدرجة أثارت انزعاج جميع الكتَّاب المعاصرين له. وعندما أتى على ذكره الروائي الروسي «أندريه بيلي» Andrey Bely صرح أن امتلاك «بونين» لنظرة ثاقبة وقاسية إزاء الفن الحقيقي ولَّدت لديه شعورًا عميقًا بمدى قوَّة وتأثيرالكلمة؛ ولهذا السبب كان يملأ «بونين» شعور بالكراهية تجاه جميع ألوان الإفراط في التنميق الفني. وبالتساوق، أكَّد الكاتب «بوريس زيتسيف» Boris Zaitsev فيما بعد أن «بونين» أتى في عصر كان يعتقد فيه الجميع أن المبالغة في التنميق حقيقة ثابتة يجب عدم الحياد عنها، أو كما قيل على لسانه: «كان قذف الأناناس في الهواء عادة يومية». وعلى النقيض، كان مجرَّد وجود «بونين» على الساحة الأدبية يُخرس الألسنة ويجعل «الكلمات تلتصق في الحلوق».
وبالرغم من نجاحاته تلك، أحيط «بونين» بالعديد من الابتلاءات الشخصية وعلى الساحة الأدبية، وأولها كان النقد اللاذع الذي يوجه له ويتهمه بالتحيُّز للطبقة الأرستقراطية وعدم القدرة على الخروج من تفاصيلها. ولكنه لم يلق لهم بالًا، ووجد في التأليف وسيلة للإفصاح عن كل مشاعره وأفكاره، كمن يدخل في مرحلة تطهير نفسي بعد المرور بالمراحل الخمس للصدمة. ولهذا السبب، برز جانب التحليل النفسي في جميع مؤلَّفاته. أضف إلى هذا، أنه استخدم سلاح معرفته الوثيقة بعالم النبلاء والطبقات الأرستقراطية كوسيلة لتحليل طبقات المجتمع، وطبيعة مجابهة كل طبقة للصدمات والنجاة منها.
فيما يبدو أن «بونين» قد دأب على مجابهة ذاته، وحينها علم بفضل خبرات السنوات الطويلة التي عاشها أن «السنوات والعقود تمر، بيد أن «اللحظة الحالية» لم يعد من الممكن تأجيلها، وتحوَّل الأمر إلى «إما الآن أو أبدًا». ولذلك، ينبغي انتهاز أي فرصة أخيرة، فلقد تأخَّر الوقت، ولن يأتي أحدهم في أعقابي ليتفقدني». إدراك «بونين» الطاغي بوجوب الاعتماد الكامل على النفس وقطع الأمل في إمكانية الاعتماد على الآخرين أو انتظار أي مساعدة من قبلهم أكبر دليل على أن «بونين» استطاع التعافي من صدمات نفسية متكررة جعلت نفسه شديدة الصلابة، ودفعته ليجابه ذاته دون أن ينتابه الخوف أو الذعر.

‭ ‬أكاديمية‭ ‬مصرية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد