عيد الجلوس ليس احتفالًا فقط .. بل تجديد لعقد العدالة الاجتماعية

mainThumb

09-06-2025 06:11 PM

في التاسع من حزيران من كل عام، يستحضر الأردنيون مشهداً لا يشبه سواه، يحتفلون فيه بعيد الجلوس الملكي، كحكاية وطن تتجدد فصولها، محمّلة بروح القيادة التي ارتبطت في قيم العدالة والكرامة. منذ عام 1999، حيث اختار جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين أن يحكم بقلبه أولًا. وأن يجعل من التنمية مسؤولية اجتماعية لا مجرد إنجازات، ركيزتها الإنسان بكل تنوعه، وأولويّته الفئات التي طالها التهميش طويلاً، وعلى رأسها الأشخاص ذوي الإعاقة.
لم تكن الإعاقة بالنسبة لجلالة للملك خطابًا مجتزأً أو بندًا روتينيًّا، بل قضية جوهرية في بناء وطن يزدهر بإنسانيته. ولعلّ من أبهى ما يمكن أن يُروى في هذا السياق، هو ما أنجزه الأردن في ملف حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، حيث تحولت الرعاية من منطلق الإحسان إلى التمكين من منطلق الاستحقاق، ومن مفردات الرحمة إلى قاموس الحقوق. لم يكن هذا التحول محض صدفة، بل جاء نتاج إرادة سياسية راسخة، تقودها رؤية جلالته الذي لم يكن حديثه عن الشمولية في القمة العالمية للإعاقة في برلين مجرد خطاب دولي، بل إعلان نوايا صادقة ترجمها اعتماد ما أصبح يُعرف بـ "إعلان عمّان–برلين 2025"، الذي التزمت فيه أكثر من 80 حكومة ومنظمة بتخصيص 15% من مشروعات التنمية الدولية لذوي الإعاقة. الإعلان، الذي شكّل تتويجًا لجهد أردني دام ثلاث سنوات، لم يكن محطة دبلوماسية فحسب، بل خطوة عملية لإعادة تعريف مكانة ذوي الإعاقة داخل المجتمعات، وعلى رأسها المجتمع الأردني. ومن هنا، بدأت ملامح التغيير تتجسد فعلياً على أرض الواقع، فلم يعد من يعجز عن الإبصار أو الحركة يُعرّف في هذا الوطن كفرد هامشي يُنظر إليه بعين الشفقة، بل أصبح جزءاً أصيلاً من نسيج المجتمع، شريكاً في القرار السياسي، ومؤسساً فاعلاً في الأحزاب، وصوتاً مدافعاً عن قضاياه بوعي وجرأة. ولم يكن هذا التحول العميق وليد اللحظة أو ثمرة ظرف طارئ، بل انطلق من مراجعة جذرية لمفهوم الدولة ذاتها، حين اختار الأردن في عام 2022 أن يُعدّل دستوره ليعلن، بلا مواربة، أن الكرامة حق لا يتجزأ، وأن العدالة لا تُفرّق بين إنسان وآخر، أياً كانت قدراته الجسدية.
لتنشأ اليوم أجيال جديدة من الأشخاص ذوي الإعاقة وهي تحمل طموحات لا تُقيّدها الإعاقة، بل تُحفّزها وتوجّهها نحو المشاركة الفاعلة. ففي كل مدرسة تتبنى التعليم الدامج، وفي كل حزب يحتفي بالتنوع، وفي كل وظيفة تُوفَّر لها الترتيبات التيسيرية المناسبة، يبرز حضور إنساني كان في الأمس غائبًا، وأصبح اليوم شريكًا حقيقيًا في صياغة المشهد الوطني. لم يعد الحديث عن ذوي الإعاقة مقتصرًا على تمثيل رمزي، بل أصبح تعبيرًا صادقًا عن واقع يتغير، تقوده إرادة، ويعززه وعي متنامٍ بحقوق متساوية وعدالة شاملة. فالتغيير لا يُقاس بما تسنه التشريعات وحدها، بل بما يترسخ في تفاصيل الحياة اليومية: في صندوق اقتراع صُمّم ليشمل الجميع، في مدرسة أُعيد تصميمها لتحتضن كل طالب، وفي منصة سياسية ارتفعت لتُعبّر عن صوت جديد طال صمته، وحان أن يُسمع بوضوح.
إن الحديث عن الأشخاص ذوي الإعاقة في الأردن، هو في حقيقته حديث عن شكل الدولة التي أرادها جلالة الملك، دولة لا تعيش على أمجاد الماضي، بل تصنع حاضرها بجهود جميع أبنائها، وتخطو نحو المستقبل بخطى متوازنة، لا تترك أحداً خلفها.
وفي ختام هذا المشهد الوطني الذي يتجدد في التاسع من حزيران من كل عام، لا يمكن النظر إلى عيد الجلوس الملكي بمعزل عن القيم التي أرساها جلالة الملك عبدالله الثاني في مسيرة حكمه، وفي مقدّمتها الإيمان العميق بأن الإنسان، أيًّا كانت تحدياته، هو محور التنمية وغايتها. لقد تحولت الرؤية الملكية إلى فعل يومي، يتجسد في السياسات والتشريعات والممارسات، ويُعيد رسم ملامح دولة أكثر عدالة واحتواءً. فالقضية لم تعد مجرد حقوق تُمنح، بل شراكة تُبنى، وهوية وطنية تتسع للجميع. وبينما يحتفل الأردنيون بهذا اليوم، فإنهم لا يحتفون فقط بقائد يجدد العهد مع شعبه، بل أيضًا بوطن آمن بالاختلاف قوة، وجعل من العدالة الاجتماعية نهجًا لا حياد عنه، ومن الكرامة الإنسانية مبدأ لا مساومة فيه.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد