عقاب جماعي في الطريق إليك

mainThumb

14-06-2025 02:49 AM

ألم تشعر يومًا بأن شخصاً ما ولو كان قريباً منك، لا ترغب فيه ولا ترتاح له أبدًا كلَّما وقعت عيناك عليه أو حتى تحدَّث معك؟ المشكلة الأكبر التي تزجي كرهك هي إيمانك بأن هذا الشخص لم يؤذك قط، ويقابل الإساءة بكل الود والاحترام؛ فإذا كنت واحدًا من هؤلاء سأخبرك بالسبب.
قد تشعر بعدم الارتياح لوجود شخص ما بجوارك لعدَّة أسباب وعلى رأسها الشعور بالتنافس؛ فقد يشعرك شخص بامتلاكه لميزات تفوق قدراتك، ووجودها بالأساس يحيي شعورًا بالحرمان حاولت كثيرًا دفنه بداخلك. أمَّا أكبر عيب، فهو درايتك بأن هذا الشخص يعرف الكثير، لدرجة قد لا تزعجك فقط، بل تسبب أيضًا الانزعاج لكل من حولك. فمن يعرف الكثير يُخشى التعامل معه لقدرته على وضع من يتعامل معه تحت مجهر معرفته، وحينها قد يصدر عليهم الأحكام أو يقولب حدودهم الشخصية تبعًا لأهوائه وتفوقه.
ومن الملاحظ أن كل السيناريوهات السابقة هي عبارة عن احتمالات تفتقر الواقعية، وكأن مسألة رفض آخرين دون سبب هي مجرَّد إجراء استباقي حمائي يقوم به الشخص لكيلا تنجرح كبرياؤه في إحدى اللحظات مستقبلاً، غير آبه أن الطرف الذي يتم رفضه دون سبب يصاب بجرح نفسي غائر لا يندمل، وخاصة إذا تكررت الواقعة.
ولقد ألقى الكاتب الإنجليزي «سومرست موم» Somerset Maugham (1874-1965) الضوء على تلك المعضلة من خلال كتاباته الأدبية المتنوِّعة التي شملت الروايات والمسرحيات والقصص القصيرة، والتي كل واحدة منها بمثابة دراسة نفسية واجتماعية عميقة، ويعزى السبب في ذلك أن «سومرست موم» نفسه كان ضحية الرفض المجتمعي دون أدنى سبب يعلمه. فلقد كان «ويليام سومرست موم» ينتمي لعائلة ذائعة الصيت، مهنتها المحاماة، ولها أيضًا أواصر دبلوماسية. أضف إلى ذلك، انتقل والده للعيش في فرنسا، وبالتحديد في باريس، وأصبح هناك محامياً ذائع الصيت. ولد «سومرست موم» في باريس، وأدهش عائلته عندما تحدَّث الإنجليزية والفرنسية منذ نعومة أظافره.
لكن القدر تدخَّل في حياته وقلبها رأسًا على عقب؛ ففي الثامنة من عمره ماتت والدته بعد أن أصابها مرض السّل. وبعد عامين ونصف فقط، مات والده أيضًا. وبذلك، كان لا بد أن يؤوب مرَّة أخرى إلى إنجلترا، والمفاجأة أنه انتقل للعيش مع أحد أعمامه الذي كان يعمل رجل دين في إحدى القرى الإنجليزية التي لم يتلقَّ أبناؤها تعليماً وعادات راقية تماهي ما كان يحظى به في فرنسا. والنتيجة كانت رفضاً اجتماعياً تاماً لذلك الطفل الصغير، والسبب هو الشعور بأنه ينتمي لعالم أفضل. ولم يقف الأمر عند ذاك الحدّ، بل إنه أصبح أضحوكة زملائه؛ لأنه يتحدَّث الإنجليزية بلكنة فرنسية. ولم يحتمل الطفل «ويليام سومرست موم» الأمر، وتأثَّرت سلبًا حالته النفسية، لدرجة جعلته يتلعثم، بل ولازمه التلعثم سنوات طويلة امتدَّت لفترة المراهقة. وبالنظر إلى عمّه، كان شخصًا طيبًا ومرحِّبًا به، لكنه لم يغمره بالدفء، بل كان يضع الحدود بينهما.
ولم ينقذه من ذاك الجحيم سوى عمَّته التي كانت تعيش في ألمانيا؛ فحينما أتمّ أعوامه الستة عشر، رتبت له الانتقال للعيش معها، والالتحاق بالجامعة هناك. وعندما آب «موم» مرَّة أخرى إلى إنجلترا، تربَّع على عرش الأدباء؛ بسبب ذكائه الفذ وموهبته اللافتة التي جعلت النقاد يلتفتون لكل عمل يكتبه، لدرجة امتدَّت حتى إلى كل قصة قصيرة يكتبها. ويكفي القول إن نجاح «سومرست موم» في عالم الأدب فاق الحدود المتعارف عليها؛ فلقد كان أوَّل كاتب يُحدد أجره بنفسه. وبالطبع، كان أغلى الكتَّاب في عصره. وبلغ من النجاح أنه في إحدى المرات عرض حي المسارح في لندن أربع مسرحيَّات من تأليفه، في آن واحد، وجميعها كانت تحقق نجاحًا كبيرًا.
ولقد استطاع «سومرست موم» أن يعالج جراحه النفسية في مرحلة الطفولة بطريقة الانتقام غير المباشر؛ فالمدرسة التي شهدت رفضه والسخرية منه، أصبحت تفتح له أبوابها عندما دأب على التبرُّع لها بأموال ضخمة، وبذلك أخضع أيضًا جميع من يعرفونه في القرية وعرَّضهم لوطأة نفسية تسببها مقارنات حقيقية يعقدها مع من اضطهدوه مسبقًا. ولكي يضمِّد جرحه الدَّاخلي، أصبح عميلًا سرِّيًا في المخابرات الإنجليزية طوال الحرب العالمية الأولى؛ ودون شكّ أهَّله لذلك معرفته باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية بطلاقة. وانضمامه للمخابرات أضحى أيضًا عاملًا آخر لزيادة شهرته. وأمَّا صلابته النفسية فاكتسبها من تطويع كل الصعاب التي كانت تسبب له الانزعاج، وعلى رأسها اسمه؛ فلقد كان يكره اسم «سومرست» في طفولته، وكان يصرّ على أن يناديه الجميع باسم «ويليام» أو «ويلي»، لكن بداية صلابته النفسية اكتسبها عندما اختار أن يصير اسمه الأدبي «سومرست موم»؛ وكأنه يعلن لنفسه أنه انتصر على كل ما يزعجه؛ كي يفسح الطريق لوضع شروطه على المجتمع الذي يعيش فيه، وبالطريقة التي يرغبها.
واللافت في الإنتاج الأدبي الغزير لـ «سومرست موم» أن أي عمل يقوم بتأليفه يحتوي على ملمح من سيرته الذَّاتية ومن شخصه. وتعد قصته القصيرة «السيد أعرف كل شيء» Mr. Know-all واحدة من أعماله العبقرية التي تشير وبنعومة واختصار إلى عواقب رفض المجتمع لشخص كل ذنبه كان تفوُّقه وامتلاكه للعديد من الميزات والمهارات. وتدور أحداث القصة عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى على سطح سفينة أقلعت من مدينة «سان فرانسيسكو» بالولايات المتحدة وفي طريقها إلى اليابان. وفي هذا الوقت، كان من الصعب الحصول على كابينة مفردة، ولهذا كان على راوي القصة أن يتقاسم الكابينة مع شخص آخر غريب. بدون أدنى سبب، تحامل الرَّاوي على من يتقاسم معه الكابينة، وبدأ الأمر باسمه «ماكس كيلادا» الذي جعل الراوي يظن أنه ربما أحد أبناء الشام التي كانت في وقت من الأوقات تحت السيادة الإنجليزية. وزاد حنقه عندما رأى أن حقائب السفر الخاصة به كبيرة الحجم، أي أنه يمتلك أمتعة كثيرة، أضف إلى ذلك حقائبه المنظمة وعليها العديد من البطاقات لحفظها. ووصل كرهه للرجل – قبل أن يراه- إلى الذروة عندما شاهد أدواته الشخصية التي قام برصها في الحمام من فرش وصابون وشامبو وغيرها؛ فلقد كانت جميعًا أنيقة ذات ماركات باهظة السعر.
ومع كل هذا الشعور بالكره والتحامل غير المبرر، قابل الرَّاوي «ماكس كيلادا» في صالة التدخين حينما كان يشعر بالزهق، وقرر أن يستخدم أوراق اللعب لتكون رفيقه الذي يسلِّي وحدته. وبكل ودّ قابله «ماكس كيلادا»، وبدلًا من التعامل معه بلطف، كان الرَّاوي شديد الوقاحة. وحينما رأى بشرته المشوبة بالاسمرار وملامحه، شكك من كون «كيلادا» إنجليزيًا، لكن الأخير ابتسم وأكَّد له الدماء الإنجليزية التي تسير في عروقه عمليًا بإخراج «جواز السفر» الخاص به.
أظهر «ماكس كيلادا» تفوقه على الفور وقدرته على تجاوز أي صعوبات عندما منح الرَّاوي فرصة الاختيار بين أنواع متعددة من المشروبات الكحولية التي يمتلكها، بالرغم من أن الولايات المتحدة في ذاك الوقت كانت تمنع تداولها. وبالتأكيد، لن يتم تقديمها على السفينة. أضف إلى ذلك، أنه كان متحدِّثاً لبقاً وقادراً على رواية أحاديث شيِّقة، لكن الرَّاوي قرر ألا ينخرط معه في الحديث، ووجد أنه من الأفضل أن يلعب بأوراق اللعب مع نفسه.
وذاك الشعور بالرفض قابله «ماكس كيلادا» من كل ركَّاب السفينة الذين أطلقوا عليه لقب «السيد أعرف كل شيء» وهذا لدرايته الواسعة بكل المجالات وقدرته على الانخراط في جميع الأنشطة على السفينة، بل إنه أيضًا كان يدير الكثير منها. ولم يزعج «ماكس كيلادا» اللقب الذي أطلق عليه ولا حتى التعامل المملوء بالتحدي من ركَّاب السفينة، بل على العكس، بدا وكأنه يستمتع بذلك؛ بالطبع فهو معتاد على هذا النوع من التحامل والرفض، ويستخدم معرفته الواسعة لإرهاب الآخرين منه أكثر، وهذه حيلة لوضع الحدود يستخدمها من قوبل بتحامل غير مبرر، وهي تساعد أيضًا في إخضاع الأعداء بسهولة عندما يحين الوقت المناسب.
واللحظة المناسبة كانت على طاولة العشاء التي تقاسمها مع مجموعة من المسافرين، وعليها حاول العديد أن يظهروا تفوقهم المعرفي عليه، لكن سعيهم يؤول للفشل بسهولة. بيد أنّ أحد المسافرين، ووظيفته القائم بالأعمال القنصلية لسفارة أمريكا في اليابان، تحدَّاه في المناقشة وحاول أن يسفِّه من معلوماته عندما تطرَّق الحديث إلى المجوهرات المقلَّدة التي كان يؤكِّد الأمريكي أنها سوف تهدد مصير المجوهرات الحقيقية. لكن «ماكس كيلادا» أصرّ على أن المجوهرات الحقيقية لن يمس قيمتها وجود أي حلي مقلَّد. وفي ذاك الحين، أشار إلى عقد اللؤلؤ الذي ترتديه زوجة الأمريكي، لكن الأخير ضحك منتصرًا وهو يعلن أنه مقلَّد، واشترته زوجته عندما تركها في البلاد لمدة عام. نظر «ماكس كيلادا» له رافضًا الفكرة، وأعلن أنه يعمل في تجارة المجوهرات ويعلم كيف يفرق بين الحقيقي والتقليد، وراهن الأمريكي على مائة دولار لإثبات صحة رأيه. وبرعونة، ورغمًا عن رغبة زوجته التي رفضت أن تخلع العقد، قام الأمريكي بنزعه عن جيدها وسلَّمه لـ «ماكس كيلادا» الذي نظر للزوجة وهو يتفحصه، فوجد أن وجهها امتقع، ونظراتها تتوسَّل له أن يثبت أنه ليس حقيقياً.
بشهامة، أعلن «ماكس كيلادا» أن العقد غير حقيقي، وناول الأمريكي المائة دولار وانصرف. في المساء، أتت الزوجة له وأعطته ظرفًا يحتوي على المائة دولار. فالتقط النقود من الظرف بهدوء وهو يؤكِّد للراوي أنه ما كان يجب على الزوج ترك زوجته الشابة وحدها لفترة طويلة، دون أن يزيد كلمة. وفي تلك اللحظة، شعر الرَّاوي أنه يحب ويحترم ذاك الرجل الذي لم يفضح أمر سيدة، وزالت غشاوة التحامل من على عينيه.
ما حدث هو أن «ماكس كيلادا» انتقم من الجميع بهدوء، وأكَّد مدى سطوته عليهم؛ فانتصر على رفيقه في السكن. وأمَّا ركَّاب السفينة، فلسوف يخامرهم الشكّ؛ لأن رجلاً في ذكاء «ماكس كيلادا» ومعرفته الواسعة لا يمكن أن يخطئ فيما هو أساس مهنته. أمَّا الزوج المتحذلق، فمتعة الانتصار سوف تزول سريعًا ويبدأ الشك يدب في كيانه، ولربما يذهب يومًا ليكشف عن العقد عند أحد تجَّار المجوهرات.
يقال إن «الانتقام من الأفضل أن يؤكل باردًا»، وهذا ما يفعله من قوبل برفض غير مبرر وعرف الطريق كي يتغلَّب على صدمته وجراحه النفسية، انتقام نفذه «سومرست موم» قبل أن يطبِّقه «ماكس كيلادا».



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد