السويداء على صهوة العدل

mainThumb

18-07-2025 02:49 PM

"ما تجفل الريح إن عبر البدوي أرضه"، هكذا قال شيخٌ من البدو وقد لفّ عمامته بوقار الرمل، ومضى نحو الجبل. لم يكن في خطاه تلك إلا معنى واحد: أن الكرامة لا تعترف بالطائفة، وأن العدل في صحراء البدو لا يُقسم على الهويّة، بل يُوزن بميزان الرجولة والحق.

في أرض السويداء، حيث للتراب ذاكرة، وللأودية همسٌ لا يسمعه إلا من أنصت بقلب القبيلة، التقت عروق الجبل بنبض السهل، حين نهضت القبائل العربية، أبناء البداية وأحفاد السيوف المهذبة بالخجل, لتغسل وصمة عارٍ نبتت في بيتها، وقالت: "الحق أولى من الدم، والعار لا يوارى بكوفية".

كانت المجالس تنعقد بين ظل غصن الزيتون وصوت النار، وكان الشيوخ يتناوبون على الحديث بوجوه تعبت من الحلم. قيل إن بعضًا من الدروز، من أولئك الذين باعوا الوجه للصهيوني، قد ضلّوا الدرب، وعاثوا في الأرض شرًّا، فكان لا بدّ من وقفة تشبه أولئك الفرسان الذين أداروا الظهر للفرنسي حين استباح الديار، لا ليهربوا، بل ليجعلوا من ظهورهم دروعًا لعشائرهم.

هنا، لا مكان للعنصرية؛ فالجبل لا يحتمل حقدًا، والرمح لا يُرفع إلا ليصيب قاتلًا.

في القصص التي تُروى على موقد البدو، تعلّمنا أن الحكاية لا تنجو إن خذلتها الحقيقة. وهنا جاءت الحقيقة كالسيل، عارمة، تشقُّ طريقها من الكرامة لا من المذهب، فقالت القبائل:
"من اعتدى على الأرض والناس، لا نسب له فينا ولو حمل اسمنا، ولا بيت له بيننا ولو حفظ صلاتنا."

وحين قرعت الأبواب على بيوت الجناة، لم يكن في الوجوه غضب، بل حزن شامخ، يشبه غصة الخيّال حين يُضطر لأن يقتص من شقيقه، لكنه يفعلها ليحفظ اسم القبيلة نقيًّا من دم الخيانة.

في قرى الجبل، انتفض الرمل، واستفاقت ذاكرة الرُّحل الذين عاهدوا القمر أن لا يبيتوا على ضيم، فكان أن مشوا إلى بيت المجرم، لا لينتقموا، بل ليقيموا ميزان الأرض، ويردوا المظلمة إلى أهلها.

ربما لم يكن المشهد يروق لمن تعوّدوا على التخاذل، لكن السويداء, كعادتها, حين تسكت فإنها تبني صاعق البرق، وحين تهمس، تُولّد العاصفة.

في أعراس النخوة التي أقامتها القبائل في كل مجلس شرف، عادت الربابة تغني، لكن هذه المرة لحنها كان حادًا، صافيًا، يشبه ضربة سيف تخلع رأس الخيانة، وتُبقي الجسد حرًا.

غنّى الشعراء في خيام البدو، واستعادوا سيرة من قال: "من يساوي الظالمين بخيمته، تهوي خيمته على رأسه."
وتُليت أسماء الجناة على الملأ، لا شماتة، بل ردًّا للاعتبار، وتطهيرًا للذاكرة من أثر الفساد.

في جبال السويداء، صار البدوي سندًا للجبل، لا طمعًا بمدح، بل وفاءً لعهد قديم، كُتب بالدم يوم وقف البدو والدروز معًا في وجه المحتل الفرنسي، ويوم هتف سلطان باشا الأطرش:
"الدين لله، والوطن للجميع."

وهكذا، صار الفعل أبلغ من البيان، والموقف بيانًا جديدًا للهوية العربية حين تقرر أن ترفض كل خائن مهما كان نسبه.

فالقبيلة التي تحاكم أبناءها قبل أن تتركهم للمحتل، هي قبيلة تعرف الفرق بين الدم والعار.
والسويداء التي تنهض على شرف الكلمة، تعرف أن التاريخ لا يخلد إلا من صانوه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد