الفيزياء المالية
الاقتصاد التقليدي بنى كثيرًا من نماذجه على فرضيات مثل فرضية كفاءة الأسواق (Efficient Market Hypothesis – EMH) ونظرية المسار العشوائي (Random Walk Theory)، وافترض ضمنيًا أن المستثمر كيان عقلاني يتخذ قراراته بمعزل عن السياق الاجتماعي والنفسي، غير أن ظواهر مثل سلوك القطيع (Herding Behavior) والعدوى المالية (Market Contagion) وتكتّل التقلبات (Volatility Clustering) كشفت أن هذا الافتراض لا يصمد أمام الواقع، وأن سلوك السوق لا يمكن اختزاله في معادلات توازن ساكنة.
في هذا السياق، قدّمت المالية السلوكية اختراقًا معرفيًا مهمًا عبر إعادة الإنسان إلى قلب التحليل المالي، فقد استندت إلى علم النفس، وعلم الاجتماع، ونظرية التمويل، لتبيّن أن قرارات المستثمرين تتأثر بالتحيّزات الإدراكية، والانفعالات، والضغوط الاجتماعية، وقد مثّل عمل Daniel Kahneman وAmos Tversky نقطة تحوّل، حين أظهرا أن اللاعقلانية ليست انحرافًا فرديًا طارئًا، بل سمة بنيوية في اتخاذ القرار تحت عدم اليقين.
غير أن المالية السلوكية، رغم قوتها التفسيرية على مستوى الفرد، توقفت غالبًا عند المستوى الجزئي، مركّزة على لماذا ينحرف المستثمر عن العقلانية، هنا جاء دور الفيزياء المالية لتكمّل الصورة، لا لتناقضها، فقد انتقلت من سؤال الدوافع الفردية إلى سؤال: ماذا يحدث عندما تتفاعل هذه الانحرافات النفسية على نطاق واسع داخل السوق؟
الجذور الأولى لهذا الانتقال تعود إلى عالم الرياضيات الفرنسي Louis Bachelier الذي استخدم الحركة البراونية (Brownian Motion) لوصف حركة الأسعار، ومع تطور الفكر الفيزيائي، لم تعد الأسواق تُرى كسلاسل عشوائية مستقلة، بل كأنظمة تتأثر بالترابط والتغذية الراجعة، وهو ما يفسّر كيف تتحول التحيّزات النفسية الفردية إلى أنماط سعرية جماعية.
وقد وفّرت نماذج الوكلاء التفاعلية (Agent-Based Models – ABM) المساحة المشتركة التي التقت فيها المالية السلوكية مع الفيزياء المالية، ففي هذه النماذج، يُمنح كل وكيل خصائص نفسية وسلوكية مستمدة من علم النفس والعلوم الاجتماعية، ثم تُحلَّل النتائج الكلية باستخدام أدوات الأنظمة المعقّدة، وبهذا المعنى، فإن المالية السلوكية هي “المدخل”، بينما التحليل الفيزيائي هو “النتيجة”.
أحد أبرز إنجازات هذا التكامل كان تفكيك افتراض التوزيع الطبيعي للعوائد، فقد بيّنت الدراسات أن الأسواق تتسم بـ توزيعات ذات ذيول ثقيلة (Heavy-Tailed Distributions)، حيث يلعب الخوف، والمبالغة في ردّ الفعل، والتقليد الجماعي دورًا مركزيًا في تضخيم الصدمات، هذا ما جعل أدوات تقليدية مثل القيمة المعرّضة للخطر (Value at Risk – VaR) عاجزة عن التقاط مخاطر الذيل (Tail Risk) الناتجة عن السلوك الجماعي لا عن الصدمات الخارجية فقط.
تُقدّم التحركات الأخيرة في أسعار الذهب مثالًا حيًا على التفاعل بين المالية السلوكية والفيزياء المالية، فالقفزات التي شهدها الذهب، متجاوزًا مستويات تاريخية مرتفعة وصلت الى 4,340 دولار للأونصة، لا يمكن تفسيرها فقط بعوامل العرض والطلب أو التضخم، بل تعكس حالة خوف جماعي وفقدان ثقة بالأنظمة النقدية التقليدية، من منظور سلوكي، دفع هذا الخوف المستثمرين إلى التكدّس في أصل واحد بوصفه ملاذًا آمنًا، بينما من منظور فيزيائي أدّى هذا التكدّس إلى حلقات تغذية راجعة (Feedback Loops) دفعت السعر نحو سلوك غير خطي قريب من النقطة الحرجة (Critical Point)، وفي السياق ذاته، تمثّل العملات المشفّرة، وعلى رأسها Bitcoin، مختبرًا حيًا لهذه الديناميكيات، حيث تتقلب الأسعار بشكل حاد في غياب قيمة جوهرية مستقرة، مدفوعة بمزيج من الخوف من فوات الفرصة، والعدوى السلوكية، والتفاعل السريع عبر الشبكات الرقمية، ما يجعلها تتصرف كنظام دائم القرب من الحرجية الذاتية التنظيم (Self-Organized Criticality).
وعلى النقيض من الذهب والعملات المشفّرة، تكشف حالة الركود أو التذبذب المحدود التي تصيب سوق النفط الذي وصل الى 60 دولار لبرميل خام برنت، رغم تصاعد التوترات الجيوسياسية والمخاطر الجزئية، عن بعد آخر من سلوك الأنظمة المعقّدة، فالسوق هنا لا يستجيب فورًا للأخبار، بل يدخل حالة من الترقب الجماعي، حيث يتردد المستثمرون بين الخوف من الركود والخوف من الصدمات، من منظور الفيزياء المالية، يشبه هذا السلوك نظامًا يخزّن التوتر داخليًا إلى أن يصل إلى انتقال طور (Phase Transition)، فتحدث القفزة السعرية أو الانهيار بشكل مفاجئ، هذا المثال يوضح بجلاء كيف تفشل النماذج الخطية في تفسير التباطؤ الظاهري قبل الانفجار، وكيف يتحول السلوك النفسي الجمعي إلى ديناميكية سعرية غير متوقعة.
وقد وفّرت هذه الأمثلة الحيّة فرصة لرصد الأنظمة المالية كمزيج من السلوك الفردي، والتفاعل الجماعي، والديناميكيات غير الخطية، وقدّم عالم الرياضيات Benoît Mandelbrot من خلال فرضية السوق الكسورية (Fractal Market Hypothesis – FMH) تفسيرًا يربط بين البنية الرياضية للسوق والسلوك البشري عبر الأزمنة المختلفة، فالتقلب، وفق هذا المنظور، ليس خللًا عابرًا، بل انعكاسًا لتفاعل نفسي–اجتماعي متكرر داخل نظام مالي معقّد.
تتجلى خطورة تجاهل هذا التكامل بوضوح في القطاع المصرفي، فالأزمات لا تنشأ فقط من أخطاء تسعير، بل من ديناميكيات نفسية جماعية تنتقل عبر شبكات الإقراض والسيولة، وتستخدم الفيزياء المالية هنا نماذج الشبكات المالية (Financial Network Models) لتحليل المخاطر النظامية (Systemic Risk)، بينما تفسّر المالية السلوكية لماذا ينتشر الذعر ولماذا تتخذ المؤسسات قرارات متشابهة في الوقت نفسه.
استنادًا إلى هذا الإطار المتكامل، يُتوقّع أن يشهد عام 2026 ارتفاعًا في التقلب النظامي (Systemic Volatility)، مدفوعًا بتفاعل ثلاثة عناصر: تحيّزات نفسية لم تُعالج، وترابط مالي متزايد، وتسارع التداول الخوارزمي. وستصبح أدوات مثل الخسارة المتوقعة (Expected Shortfall – ES) أكثر أهمية من المقاييس التقليدية، بينما سيكون الفهم السلوكي–الفيزيائي المشترك شرطًا أساسيًا لتقدير المخاطر. في هذا العالم، لا يكفي أن نفهم السوق كمعادلة، ولا الإنسان كحالة نفسية منفصلة، بل كنظام واحد تتشابك فيه النفس، والمجتمع، والمال.
الجيش اللبناني يعثر على جهاز تجسس إسرائيلي في يارون
الأردن والسعودية يبحثان جهود تثبيت وقف إطلاق النار في غزة
49 محاميا يؤدون اليمين القانونية أمام وزير العدل
الفيصلي يتجاوز الجليل في دوري سي إف آي الممتاز
صدور القانون المعدل لقانون الجريدة الرسمية
غارتان إسرائيلية على ياطر في جنوب لبنان تسقط شهيدا وتصيب آخر
الضمان الاجتماعي: حقائق وتطلعات معلقة
الصحة العالمية: التقدم في مكافحة المجاعة في غزة ما يزال هشا
وزارة الثقافة تحتفل باليوم العالمي للغة العربية
إضاءة شجرة عيد الميلاد في مركز زوار البترا
القاضي: مجلس النواب يؤمن بدور الإعلام في الدفاع عن رسالة المملكة
مدعوون للتعيين وفاقدون لوظائفهم في الحكومة .. أسماء
ماسك ينشر قائمة الدول الأكثر توقيفا لمعلقين على الإنترنت
وظائف شاغرة في الضمان الاجتماعي والبحرية الأردنية .. تفاصيل
عندما تصبح الشهادة المزورة بوابة للجامعة
طريقة لزيادة عمر بطاريات الهواتف الذكية
أبرز مواصفات الهاتف المنتظر من Realme
الأردن يوقع اتفاقيتي توسعة السمرا وتعزيز مياه وادي الأردن
تجارة عمان تدعو لإنشاء مجلس أعمال أردني -أذري
الصناعة توافق على استحواذين في قطاعي الطاقة والإسمنت
المملكة على موعد مع منخفض جوي جديد .. أمطار وزخات ثلجية وصقيع واسع ليلاً
الأردن يشارك في البازار الدبلوماسي السنوي للأمم المتحدة
بحث التعاون بين البلقاء التطبيقية والكهرباء الأردنية


