الضمان الاجتماعي: حقائق وتطلعات معلقة

الضمان الاجتماعي: حقائق وتطلعات معلقة

21-12-2025 10:40 PM

في قلب النسيج الاقتصادي للمجتمع الأردني، ينبض الضمان الاجتماعي كنظام تأميني تكافلي يرمي إلى حماية الإنسان في مواجهة مخاطر الحياة المختلفة، من الشيخوخة إلى العجز والوفاة، متخذًا من الاشتراكات الجسور التي تربط حاضر العامل بمستقبله الآمن؛ إلا أن هذا الجسر، حين يُحصَّن في معادلات مالية جامدة دون روح فلسفية، يصبح أشبه بـ«عقد دين مع الزمن» لا عقد ضمان تكافلي، وهنا لا يُمكن أن نمحو من ذاكرتنا الاقتصاديّة حجم الأصول التي يديرها صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي، والتي قُدِّرت بنحو 18 مليار دينار بنهاية الربع الثالث من هذا العام 2025، بزيادة تقارب 1.7 مليار دينار خلال العام، وهو ما يعكس نموًا يقارب 10.6% في قيمة الأصول نتيجة الأداء الاستثماري القوي وارتفاع القيمة السوقية لحيازات الأسهم الإستراتيجية، وهذا الكم الهائل من الأصول يشبه جبلًا من الذهب في الأدبيات المالية، لكن حين يغدو أكثر من 57% مستثمرًا في سندات وأدوات دين حكومية، حوالي 10.3 مليار دينار تقريبًا، فإنه يكون أقل شبها بالخزان الملهم وأكثر شبهاً برهنٍ طويلٍ الأمد للدولة نفسها.
وإذا ما نظرنا إلى محفظة استثمارات الصندوق كمفهوم إدارة مخاطر (Risk Management)، نرى أنها موزعة بين: سندات وأدوات دين حكومية 57.8% من إجمالي الأصول 10.3 مليار دينار، أيضا أسهم في السوق: نحو 18.2% قرابة 3.2 مليار دينار، وكذلك أدوات السوق النقدية12.6% حوالي 2.24 مليار دينار، إضافة الى عقارات واستثمارات سياحية وقروض تُكمّل الباقي.
هذا التنوّع، ولو بدا مثاليًا على الورق، يحمل في طياته مفارقة جوهرية هي أن : درجة الانكشاف الكبيرة على دين الحكومة نفسها تعني أن الضمان الاجتماعي يقترض في الوقت الذي يفترض فيه أن يدعم العاملين مستقبلاً، ليساهم في تمويل الميزانية العامة بدلاً من أن يكوّن رصيدا مستقلا للمعاشات والمنافع، وبذلك ظلّ الدخل الاستثماري للصندوق يحقق نموًا ثابتًا، إذ أن صافي الدخل بلغ نحو 809.6 مليون دينار في عام 2025، مع دخل شامل تجاوز 1.6 مليار دينار بفضل revaluation أو إعادة تقييم الاستثمارات، وهو ما يمثل زيادة ضخمة مقارنة بالعام الماضي ، وهذا الأداء المالي في حد ذاته إنجاز، لكنه أيضًا فتح باب الجدال حول ما إذا كان هذا العائد الحقيقي يعكس «كفاءة اقتصادية» أم «تحصيل أرباح رأسمالية مؤقتة"، والأكثر إثارة للقلق والتحليل النقدي هو حجم الديون الحكومية لصالح الصندوق، إذ تشير تقارير متعددة إلى أن أكثر من 57–64% من أصول الصندوق مستثمرة في أدوات دين حكومية، وهو ما خلق شبه «اعتماد مؤسسي» على الحكومة، هذا الاعتماد المؤسسي يشبه أن يضع الضمان الاجتماعي رأس ماله كـ«رهينة اقتصادية» مقابل عائد مضمون، لكنه في الوقت نفسه يجعل استدامة النظام مرهونة باستقرار المالية العامة.
وهنا برزت المشكلة بتحوّل الضمان الاجتماعي من كونه شبكة أمان اجتماعي للإنسان العامل إلى أداة تمويل للحكومة، وخزان للسيولة في مواجهة عجز الميزانية، هذا التحوّل يعيد تشكيل العقد الاجتماعي بين المواطن والحكومة، من علاقة تعاقد تكافلي إلى علاقة ديون متبادلة، حيث تصبح أموال العاملين رأسمالًا يُستدان لصالح الحكومة، بانتظار أن يُعاد إليها مع فوائد قد لا تكفي لمواجهة اختبارات الزمن غير المتوقعة (التضخم، البطالة، التغيرات الديموغرافية)، لذلك فإن التحديات التي يواجهها الضمان الاجتماعي ليست مالية بحتة، بل بنيوية أيضًا: من الاعتماد على أدوات الدين السيادية والذي يقلّل من منسوب العائد المعدّل بالمخاطر لصالح الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، الى شروط الاستحقاق ونظم حساب المنافع، فلا تزال غير متوافقة مع الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل، إضافة الىغياب مرونة اشتراكات العاملين في القطاعات غير التقليدية، حيث يحجب عن الصندوق مصادر جديدة للاشتراك والاستدامة، وأخيرا (وبكل تواضع)، أتمنى على حكومتنا الموقرة وحفاظا على ديمومة عمل هذه المؤسسة والمصالح الوطنية العليا وضع خطة تخفيض تدريجي للدين الحكومي المستحق لصندوق أموال الضمان بحيث ينخفض إلى ما دون 40% من الأصول بحلول عام 2030، عبر جدول زمني ملزم يتضمن معدلات سداد محددة وفوائد متفق عليها، مع تعزيز تنويع الاستثمارات بتوسيع الحصة في المشاريع الإنتاجية ذات القيمة المضافة (بنية تحتية، طاقة متجددة، خدمات رقمية) مع إدارة مخاطر صارمة، وكذلك تبني حوكمة استثمارية وفق المعايير الدولية لتحسين الشفافية، وتقليل تأثير الضغوط الحكومية على قرارات الاستثمار، إعادة هيكلة تعدد مجالس الحاكمية للمؤسسة وصندوق أموال الضمان بحيث تقتصر على مجلس إدارة وجهاز تنفيذي برئاسة مدير عام، كما في البنك المركزي الأردني، مع إصلاح نظم الاستحقاق لتلبية احتياجات العمال الجدد والعاملين في الاقتصاد غير النظامي، عبر إدخال آليات اشتراك مرنة ومنافع مُعزّزة، وبذلك نضمن أن الضمان الاجتماعي، في جوهره، ليس مجرد حسابات نقدية، بل عهـد وعقد اجتماعي زمني بين الحاضر والمستقبل
وخلاصة القول، يبقى الضمان الاجتماعي ميداناً مفتوحًا بقدر ما هو معادلة اقتصادية، فإما أن يُدار بوصفه جسرًا يعبر عليه المواطن إلى مستقبل آمن، أو يتحوّل إلى دفتر ديون مؤجل، تتآكل صفحاته مع الزمن، بين هذين الخيارين يتحدد جوهر العقد الاجتماعي، وتُختبر قدرة الحكومات على تحويل الأرقام إلى كرامة، والسياسات إلى طمأنينة، والضمان إلى معنى يتجاوز الحسابات نحو الإنسان ذاته.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد