النسيج الاجتماعي الرقمي

النسيج الاجتماعي الرقمي

21-12-2025 10:01 PM

غالبًا ما تُقدَّم وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها فضاءً إنسانيًا واسعًا تتقاطع فيه المشاعر والتجارب، وكأنها انعكاس حديث للإنسانية المعاصرة. غير أن هذا التصوير-رغم انتشاره- يبالغ في منح هذه المنصات بعدًا إنسانيًا لا تمتلكه بطبيعتها. فوسائل التواصل ليست مساحة إنسانية بالمعنى العميق، ولا تمثل تطورًا طبيعيًا في التجربة البشرية، بل هي أنظمة رقمية جامدة صُممت لإدارة التفاعل وتنظيمه، لا لاحتضان الإنسان بكل تعقيداته الشعورية والاجتماعية.

صحيح أن المستخدمين قد يشعرون بشيء من القرب أو الألفة عند التواصل عبر هذه المنصات، لكن هذا الإحساس لا يعني أن الوسيط نفسه يحمل طابعًا إنسانيًا. فالمنصات لا تفهم العاطفة ولا تنتج التعاطف، بل تتيح قنوات محدودة للتعبير الرمزي عنه. الإنسان هو من يُسقِط إنسانيته على فضاء تقني صامت، محاولًا تحويل الكلمات والصور والإشارات الرقمية إلى بدائل مؤقتة للحضور الحقيقي الذي لا يمكن تعويضه.

عند الحديث عن النسيج الاجتماعي الرقمي، لا نتحدث عن مجتمع إنساني جديد بقدر ما نتحدث عن إعادة ترتيب للعلاقات داخل بُنى تقنية صارمة. لقد أُعيد تعريف مفهوم “المجتمع” ليقوم على الظهور، والتفاعل السريع، والانطباع البصري، بدل التجربة المشتركة والاحتكاك الإنساني المباشر. في هذا السياق، تتحول الذات الإنسانية تدريجيًا إلى تمثيل رقمي، صوت يُقاس بمدى انتشاره، وصورة تُقيَّم بمدى تفاعل الآخرين معها، وهوية تختزل في حساب شخصي.

كما لم تُنشئ وسائل التواصل مساحات جديدة للتعاطف الإنساني، بل أعادت توزيع التعبير عنه ضمن أشكال مختزلة ومسطّحة. فالتعاطف لم يولد داخل المنصات، بل سبقها أزلياً، وهي لا تقوم إلا بنقله في صيغة رمزية تفتقر إلى العمق الإنساني الكامل. الإيماءات الرقمية قد توحي بالقرب، لكنها تبقى منفصلة عن التجربة الإنسانية التي تتطلب حضورًا جسديًا، ومسؤولية شعورية، وتفاعلًا حقيقيًا غير قابل للقياس أو الاختزال.

ورغم الحضور الكثيف لوسائل التواصل في تفاصيل الحياة اليومية، فإنها لن تستولي على الإنسانية نفسها. فهي أدوات، لا بدائل، ووسائط لا تمتلك القدرة على إعادة إنتاج الإنسان. ما يشعر به المستخدمون من لحظات تواصل أو دفء عاطفي لا ينبع من طبيعة المنصات، بل من الإنسان الذي يسعى بطبيعته إلى التواصل حتى عبر أكثر القنوات جمودًا وبرودة.

إعادة تشكيل المجتمع عبر وسائل التواصل لا تعني بالضرورة تطوره إنسانيًا، بل تنظيمه رقميًا. فالقيمة تُقاس بالتفاعل، والوجود يُختزل في الظهور، والعلاقة تُحدَّد بمدى الاستمرارية الرقمية لا بعمقها الإنساني. هذا التحول يفرض أسئلة جوهرية حول ما نفقده عندما تتحول العلاقات إلى إشارات رقمية، وحول ما يتبقى من المجتمع عندما يصبح أفراده تمثيلات افتراضية أكثر من كونهم ذواتًا متجسدة.

في النهاية، النسيج الاجتماعي الرقمي ليس امتدادًا للإنسانية، بل إطارًا تقنيًا تتحرك داخله محاولات بشرية مستمرة للتواصل. والتمييز بين الإنسان والوسيط الرقمي لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم المجتمع الحديث دون الوقوع في وهم أن التقنية قادرة على تعويض العمق الإنساني الذي لا يوجد إلا خارج الشاشات



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد