في الجزائر: هل نعلن وفاة أغنية الراي

mainThumb

27-07-2025 12:26 AM

قبل قرن من الآن، ظهرت موسيقى جديدة في الجزائر، حملت مسميات عدة: «العروبي»، «القصبة» و«الوهراني»، قبل أن يستوي اسمها وصارت تسمى أغنية الراي. انبثقت بوصفها صوت الهامش ضد الخطاب المهيمن. بوصفها كذلك لغة انعتاق ورغبة في التحرر من الأنظمة المحافظة. كانت بدايات أغنية الراي بطيئة، استفادت من إرث الشعر الملحون، كما استعانت بآلات طبلية وأخرى نفخية، قبل أن ينظم إليها العود، ثم تعددت آلاتها.
ولكن منذ السبعينيات عرفت أغنية الراي نقلة، مستفيدة من تطور وسائل التسجيل، وانتشار الراديو ثم التلفزيون، وتحولت إلى ظاهرة فنية، بل صارت الجزائر لا يأتي ذكرها منفصلة عن أغنية الراي. صارت هذه الأغنية مثل بطاقة هوية في البلد. وطافت نجومية المغنين الأرجاء، من اليابان إلى أمريكا، هب الناس في الإصغاء إليهم. لكن الأسباب التي أدت إلى ظهور الراي اندثرت أو تكاد تندثر، والتحولات الاجتماعية ثم السياسية، التي عرفتها البلاد توحي بأن أسباب بقاء الراي زالت. لم يعد لهذه الأغنية من مبرر من أجل البقاء. لأن المرأة التي كانت موضوعها الأساسي، لم تعد تتوارى خلف حجاب، مثل السابق، بل وجدت كوة تتنفس منها، مستفيدة من وسائل التواصل الاجتماعي، بل بات لها صوت ولم نعد ننتظر أغنية راي من أجل معرفة أحوال النساء. كما إن الذكورية المطلقة انكسرت شوكتها، وموضوعات أخرى مثل الإيروتكية، أو نقد السائد توارت كذلك، لأن السوشيال ميديا قادت ثورتها على الأنظمة المحافظة، ولم تعد الجزائر مثلما كانت عليه في الماضي. بدأت الإنترنت تتيح نظرة واضحة عما يجري في قاع المجتمع. كما إن الحب لم يعد محرما مثلما سبق، بل صار سلعة مبتذلة، يمكن التقاطها على رصيف شارع، بفضل وسائط التواصل مرة أخرى.


بالتالي فإن الأسباب التي أدت إلى ظهور أغنية الراي، باعتبارها أغنية معارضة للراهن، وأنها صوت للهامش وللمقموعين، تلك الأسباب زالت، وزوالها يعني أن الراي في طريقه إلى المتحف. كما إن أغنية الراي لم تخلق بديلا فنيا، لم تقترح موسيقى مغايرة، بل إنها لم تهتم في شكلها الفني، لأنها أغنية تتكل على الكلمات، على الخطاب، على اللغة، على مخاطبة عقل المستمع لا وجدانه، لذلك فإنها لم تجد نفسها في نهاية المطاف، والموضوعات التي داومت عليها لم تعد من باب المحرم أو الممنوع، بل كل الثيمات التي غنى عنها نجوم الراي، في السابق، باتت في صنف المباح أو المتعارف عليه. لم يعد لديها قاموس كلمات يعبر عن قمع أو أن النساء يعشن خلف حجاب، لم يعد لها رصيد في نقد الحال الاجتماعي، لأن المجتمع في تغير. ماذا بوسع مغنيي الراي أن يغنوا عنه قياسا بما فعل الأسلاف؟ بطبيعة الحال، كل الموضوعات التي تعودوا عليها جرى ابتذالها، ولذلك فإن عددا من النجوم، الذين لا يزالون على قيد الحياة (كلهم في الغالب تجاوزوا الستين من العمر)، فضلوا الانسحاب من غير ضجيج، من غير أن يعلنوا اعتزالهم. لقد تشتتوا في بقاع الأرض، من الجزائر إلى خارجها، وانقضت سنوات لم نسمع فيها عن صدور ألبوم واحد، يستحق الإشادة أو نتوقف عنده من أجل الكتابة. لقد دخل مغنو الراي الصمت، لأن التغيرات من حولهم أوجبت عليهم الانصراف إلى السكوت. والشيء المحير أننا بتنا نسمع، من حين لآخر، عن توقيف مغني راي أو سجنه، بحجة المساس بالأخلاق أو القيم، وهو أمر من شأنه أن يعجل باعتزال مغنين آخرين، كي لا يتعرضوا إلى تشويه، أو يجدوا أنفسهم في مأزق وقد بلغوا من الكبر عتيا.
الوضع الذي وصلت إليه أغنية الراي يوحي بأنها دخلت النفق، لم تعد قادرة على ابتكار موضوعات جديدة، كما إن الناس تآلفوا مع الماضي، لا يسمعون سوى الأغاني القديمة، بعدما عجزوا عن العثور على أعمال جديدة. صارت أغنية الراي في حكم الماضي، نتكلم عنها بوصفها حدثا مضى، لأن لا حاضر لها ينبئ بصحوة، ولا مستقبل لها في ظل زوال الشروط التي أدت إلى ظهورها قبل قرن من الآن. هناك متغير آخر يعجل بنهاية أغنية الراي ويتعلق بجمهور المستمعين. فعندما ظهرت أغنية الراي، كانت الساحة شبه خالية من أنماط محلية أخرى، بالتالي سهل عليها أن تكسب مكانة لها، في وقت قصير. وعندما تطورت بشكل لافت، وشاع انتشارها في السبعينيات من القرن الماضي، كانت الساحة في البلاد محصورة بين مغنين من المشرق العربي وآخرين من فرنسا، مع نجوم محليين من صنيع الإذاعة والتلفزيون في عاصمة البلاد، بينما الراي خرج من قرى غرب البلاد ومن الأحياء الشعبية، ونجح في تقديم نفسه كبديل عنهم، وقد أفلح في مسعاه.
ثم إن حملة التضييق التي تعرض لها من طرف التلفزيون، في السبعينيات ثم الثمانينيات ساعدت في انتشاره، وكسب تعاطفا من طرف الناس. أما اليوم فإن الجمهور مختلف عما سبق. ومن يستمعون إلى الموسيقى الجديدة هم شباب ومراهقون، وفي الغالب إنهم على اتصال بالإنترنت، وبالتالي يتاح لهم ما يصدر من أعمال جديدة في أوروبا أو أمريكا، أو غيرها من بقاع العالم. صارت السوق المحلية مفتوحة على النتاج الغنائي، صارت تعج بالمتنافسين، وصارت المنافسة صعبة، ولم يعد في مقدور مغني الراي منافسة السلع التي تصل من الخارج، وتتسلل من موبايل أو لابتوب. كما إن الجيل الجديد من المستمعين يميل إلى إيقاعات أكثر خفة، إلى أغان تشبه الأكل السريع، ولا يطيل السماع إلى إيقاعات أثقل كحال أغنية الراي. هذا الانفتاح على أسواق موسيقية أخرى جعل الراي في خندق الأغاني الثانوية، لم يعد يتصدر المشهد كما كان عليه في السابق. وقد عجز عن كسب قلوب الجمهور الجديد من اليافعين. فغالبية من لا يزالون يصغون إلى الراي قاربوا الأربعين من عمرهم، بينما من يصغرونهم سنا انصرفوا في الإصغاء إلى أشياء جديدة ومختلفة. وإزاء هذا الوضع لا يمكن أن نراهن على عودة لأغنية الراي، وأن تنبعث من رمادها، فقد انتقلنا من الإصغاء إليها إلى التعاطف مع مغنيها الذين يدخلون السجن، بل يمكن أن نراهن أن تنسحب أغنية الراي في هدوء، أن تعلن نهايتها، وتحافظ على أرشيفها بوصفها أغنية سايرت قرنا من تاريخ الجزائر وصنعت مخيلة أجيال من الجزائريين.

كاتب جزائري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد