غاتسبي العظيم

mainThumb

28-07-2025 12:18 AM

لم يجد فرانسيس سكوت فيتزجيرالد تفسيرا منطقيا لعدم رواج روايته «غاتسبي العظيم»، فمنذ صدورها قبل قرن بتمامه في أبريل/نيسان 1925 إلى وفاة مؤلفها في سن الرابعة والأربعين عام 1940 لم يبع منها سوى 25000 نسخة، وقد عزا مؤلف الرواية سبب الفشل إلى عدم وجود شخصية نسائية كاريزمية في روايته، فكتب لناشره ماكس بيركنز «لم يحتو الكتاب على أي شخصية نسائية مهمة، والنساء يسيطرن على سوق الروايات في الوقت الحاضر»، فالغالبية الساحقة من شخصيات الرواية النسائية « عشيقاتٌ مهووسات ورياضيات صغيرات الصدور ووريثاتٌ جميلات يملأن الدنيا مالا»، ولكن فيتزجيرالد ما لبث أن أرجع الفشل إلى عنوان الرواية «اللطيف» كما وصفه، فهو غير جذاب مما ساهم في إضعاف المبيعات، رغم أن الروائي تنقل بين بدائل عديدة مثل: «بين أكوام الرماد» و»المليونيرات» و»تريمالكيو في ويست إيغ» و»غاتسبي ذو القبعة الذهبية» و»العاشق المرتد» و»على الطريق إلى ويست إيغ» قبل أن يستقر على «غاتسبي العظيم». وفاقم الأمر استقبال النقاد البارد واللامبالي لروايته وقد بلغ من قسوة هذا التلقي الفاتر، أن كتب أحدهم «لا أعرف حتى ما إذا كانت الرواية مفهومة تماما لأي شخص، لم يلمح لمحات من الحياة التي تصوِّرُها».

ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان: سنتان فقط بعد وفاة فيتزجيرالد وزعت منظمة (مجلس الكتب في زمن الحرب) في منتصف الحرب العالمية الثانية 155000 نسخة من الرواية على الجنود في الجبهة، فأصبحت الرواية بيد كل شخص، وقُررت في المدارس الثانوية الأمريكية، وكُتبت عنها المقالات، وأُلّفت في تحليلها الكتب، وبيع من الرواية – التي أصابت مؤلفها بخيبة ظن، حتى اعتقد أنه كاتب فاشل – أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وتُرجمت إلى ما يزيد على أربعين لغة عبر العالم، وأصبحت من كلاسيكيات الرواية الغربية، بل وُصفت هذه الرواية ذات المئتي صفحة بأنها «أعظم رواية أمريكية»، حتى غلافها الذي صممه الفنان الإسباني الأمريكي فرانسيس كوجات والذي يجسد وجها خفيّ الملامح ذا عينين سماويتين تطفوان فوق أضواء كوني آيلاند، تحول إلى أيقونة، وبلغ من شدة إعجاب فيتزجيرالد به، أن أعاد كتابة بعض فصول الرواية لتتواءم مع صورة الغلاف، رغم أن إرنست همنغواي صديق فيتزجيرالد وصف هذا الغلاف الذي دخل التاريخ بأنه «السترة الأكثر قبحا التي رآها».

تبدو الرواية في ظاهرها ذات حبكة بسيطة يرويها لنا شاب من مينيوستا يدعى نيك كاراواي ينتقل في صيف 1922 إلى نيويورك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بسنوات وظهور البحبوحة في المجتمع الأمريكي، ويستأجر منزلا في منطقة ويست إيغ في لونغ آيلاند، وهي منطقة سكنها الأثرياء الجدد، الذين كوّنوا ثرواتهم بطرق ملتوية ويتفاخرون بها، ومن بينهم رجل غامض يدعى غاي غاتسبي، يسكن قصرا قوطيا فخما ويقيم حفلات مبالغ فيها كل ليلة سبت بغرض لفت أنظار حبيبة سابقة، افترقا قبل خمس سنوات، وللمصادفة ليست هذه الحبيبة سوى ديزي بوكانان ابنة عم راوي الرواية. وحين يزور نيك كاراواي ابنة عمه وزوجها توم، وهو زميل دراسة سابق له ويسكنان منطقة إيست إيغ الراقية، يتعرف عندهما على شابة جميلة ساحرة أغرم بها، وهي من تخبره أن لزوج ابنة عمه عشيقة متزوجة أيضا. تشاء الصدف أن يُدعى نيك كاراواي إلى إحدى حفلات غاتسبي الأسبوعية الضخمة، ويتعرف الرجلان على بعضهما بعضا، وحين يعرف غاتسبي الشاب الثري الغامض أن نيك قريب ديزي، يطلب منه ترتيب لقاء بينهما لعله يحيي حبه القديم، ذلك الحب الذي جعله يقضي ليالي وهو يحدق في الضوء الأخضر في نهاية رصيفها على الجانب الآخر من الخليج المقابل لقصره، ويقيم حفلاته الباذخة الصاخبة، آملا أن يثير إعجابها من جديد. ويلتقي العاشقان السابقان في منزل نيك، ويجددان علاقتهما، غير أن توم زوج ديزي يشك في هذه العلاقة، ويغضب من فكرة خيانة زوجته له – وهو الذي يخونها أيضا – فيخبر زوجته أن غاتسبي مجرم جمع ثروته من نشاطات غير قانونية كتهريب الكحول، الذي كان ممنوعا بيعه في تلك الفترة، فتميل الكفة إليه وليثبت ثقته في زوجته، يدع غاتسبي يوصلها إلى إيست إيغ، تصدم سيارة غاتسبي في طريق عودته عشيقة توم فتقتلها، فيقرر زوج القتيلة الانتقام من غاتسبي، دون أن يعلم أن من كانت تسوق السيارة هي ديزي، فيتوجه إلى غاتسبي في قصره ويطلق عليه النار في مسبحه ويقتل نفسه بعدها. ينظم نيك جنازة صغيرة لغاتسبي وينهي علاقته بحبيبته عائدا من حيث أتى هربا من الأشخاص الذين كانوا يحيطون بغاتسبي في حياته، ولكن حين قتل لم يجد من يمشي في جنازته.

ما الذي يجعل روايةَ غرام وانتقام تبيع ملايين النسخ وتؤثر في أجيال متعاقبة؟ لعل للفترة التي تناولتها الرواية (سنة 1922) بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي سماها فيتزجيرالد عصر الجاز، حيث تصاحبت هذه الموسيقى الصاخبة الراقصة مع وفرة مالية وازدهار اقتصادي وتساهل أخلاقي وانتشار للحانات، رغم حظر الكحول وبحث الجميع عن المتعة، لعل لهذه الفترة التي صنع الحلم الأمريكي دورا أساسيا في شهرتها، خاصة أن فيتزجيرالد عرّى هذا الحلم بطريقة غير مباشرة ونزع القشرة البراقة عن اللب المتعفن. علما أنه عاش تفاصيله وخبِرَ زيفه حين خطب وهو شاب، فتاة غنية فرُفض لفقره وقد ذكر ذلك حين قال، إن قصة غاتسبي هي «عدم عدالة الشاب الفقير الذي لا يستطيع الزواج من فتاة تملك المال.

هذا الموضوع يتكرر مرارا وتكرارا لأنني عشته»، فالرواية تناولت مواضيع لا تزال راهنة إلى الآن في أمريكا وفي غيرها من البلدان مثل فكرة الصراع الطبقي، حيث يعيش الأغنياء في جزر شبه معزولة، وتنافسهم مع محدثي النعمة، فأصحاب الغنى الأصلي يحتقرون ما عداهم، أو كما وصفهم نيك كاراواي «كانوا قوما طائشين، حطَّموا الأشياء والناس ثم تراجعوا عائدين إلى أموالهم، أو إلى استهتارهم العظيم، أو كائنا ما يكون ذلك الذي يجمعهم معا، ثم تركوا للآخرين لملمة الفوضى التي تسببوا فيها». أما الأغنياء الجدد (محدثو النعمة) فيعوضون النقص الذي يستشعرونه أمام الذين توارثوا الغنى بالمبالغة في إظهار ثرواتهم عن طريق السيارات الفارهة، والثياب الغالية والحفلات الباذخة.
ويفضح فيتزجيرالد أيضا الوجه المظلم لهذا التفاخر فالمحيطون بأمثال غاتسبي متطفلون مزدوجو الشخصية، ينفضُّون عنه في أقرب فرصة، فهم يرقصون في حديقته ويشربون خموره الغالية، لكن لا يحضرون تشييعه. وشخصية غاي غاتسبي نفسه، إشكالية نتعاطف مع هذا العاشق الذي يفعل المستحيل للفت أنظار حبيبته ولا يعرف اليأس إليه سبيلا، فهو متفائل أبدي «يفهمك بقدر ما تريد أن يفهمك، ويؤمن بك كما تحب أن تؤمن بنفسك»، ولكنه شخصية غامضة مهما ادعينا فهمها، وقد ترك فيتزجيرالد شخصية غاتسبي غامضة عمدا «حتى يتمكن أي قارئ من أن يطبع أحلامه الخاصة عليه». فهذا القادم من بيئة متواضعة والذي بنى ثروته من خلال الاحتيال ومخالفة القوانين، والمحب للاستعراض، والحالم باسترجاع حبيبته، يجد كل قارئ جزءا منه في شره وخيره، لذلك توالت طبعات الكتاب كما توالت معها الأعمال التلفزيونية والسينمائية والموسيقية والمسرحية المقتبسة من هذه الرواية، ويكفي أن نذكر أن «غاتسبي العظيم» اقتُبست للسينما سنة 1926 أي بعد عام واحد فقط من صدورها، واقتُبست كذلك سنة 1974 في فيلم كتب له السيناريو المخرج فرانسيس فورد كوبولا، وإن كان فيلم 2013 الذي مثل فيه ليوناردو دي كابريو دور غاتسبي العظيم الاقتباس الأشهر لهذه الرواية الأيقونة.

في الذكرى المئة لصدور رواية «غاتسبي العظيم» أضيء مبنى أمباير ستيت في نيويورك باللون الأخضر، في إشارة رمزية إلى الضوء الأخضر في نهاية الرصيف المؤدي إلى بيت ديزي، الذي كان يرى فيه غاتسبي الأمل والحلم والشوق، ولكن كل ذلك تبخر وتبخر معه الحلم الأمريكي، كما تضاءلت صفة العظيم، وإن كانت هذه العظمة لا تزال تراود حكام ذلك البلد، ألم يكن شعار حملة رئيس أمريكا الحالي «اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى» (MAGA)؟ فعسى أن لا يتحول الحلم الأمريكي الجديد إلى كابوس مرة أخرى!

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد