زياد الرحباني

mainThumb

28-07-2025 12:19 AM

ما خلا التمرّس الإرادي المستدام في تربية الحواسّ على الاستماع، والتدرّب الشاق على الاستقبال والتذوّق، وتنشيط فضول معرفي يتوسل التثقف والتعلّم؛ لا تزعم هذه السطور أيّ إلمام متعمق بعلوم الموسيقى في جوانبها التقنية التي قد تشمل السلّم أو طبقات الصوت أو المقامات أو أسرار الآلات على أنواعها، شرقية كانت أم غربية، حديثة أم كلاسيكية. وإذ يواصل كاتبها الانخراط في دراسة الشعر على نحو خاصّ، بين أنواع أخرى من الكتابة الإبداعية، فإنّ الانشغال بمسائل النبرة والإيقاع والصوت في القصيدة ظلّ أقرب إلى مشترَط نشطٍ تحريضيّ، بالمعنى الإيجابي لحسن الحظّ، يدفع بالضرورة نحو الموسيقى.
وهذا سياق موسيقي/ شعري يبيح استعادة تعبير «هيئة الصوت»، الذي أطلقه ذات يوم شاعر ويلز الكبير ديلان توماس، وأعطى في شرحه هذا النصّ البديع: «لقد رغبتُ في كتابة الشعر لأنني، بادئ ذي بدء، وقعت في غرام الكلمات. وأوّل القصائد التي عرفتها كانت أغنيات الأطفال ساعة النوم. وقبل أن تُتاح لي قراءة هذه الأغنيات، انسَقْتُ إلى عشق كلماتها أساساً، والكلمات فقط. أما ما تعنيه وما تدلّ عليه، فقد احتلّ أهمية ثانوية للغاية. لقد شدّني صوت الكلمات، ولم أكن أعبأ بما تقوله الكلمات بقدر حرصي على هيئات الصوت الذي يسمّي، والكلمات التي تصف الأفعال في أذني، والألوان التي ترشق الكلمات على عينيّ».
وإذ يخيم حزن غامر شمل الملايين من أجيال شتى وذائقات متنوعة وحساسيات متباينة إزاء رحيل الفنان اللبناني الكبير زياد الرحباني (1956ـ2025)، فإنّ قسطاً غير قليل من مقترحاته الموسيقية الفذّة والطليعية والفاتنة كان، في ظنّ هذه السطور، على صلة وثيقة بما وَهَب للصوت من هيئة، أو هيئات ربما، في قلب جملة موسيقية تحتمل الواسع الرحب من محرضات تأهيب الاستقبال. ثم، على توازٍ بارع وجَسور واختراقي وطليعي هنا أيضاً، إطلاق الدلالة حرّة على عواهنها عبر مفردة منتزعة من باطن حيّ وحيوي في لغة الحياة اليومية؛ جارح كنصل حادّ، وساخر كقهقهة صعلوك.
ويندر أن يُختلف حول مكانة أعمال مسرحية سبّاقة وثّابة إلى أقصى حلبات تحدي السائد والراكد كما يصحّ القول، مثل «سهرية»، 1973؛ «نزل السرور»، 1974؛ «بالنسبة لبكرا شو»، 1978؛ «فيلم أمريكي طويل»، 1981؛ «شي فاشل» و»أنا مش كافر»، 1985؛ «العقل زينة»، 1987؛ «لولا فسحة الأمل»، 1992؛ «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، 1993؛ وسواها. وقد تتضارب الآراء، في المقابل، حول جرعة «جاز شرقي»، حسب توصيف شاع بسهولة مفاجئة، ابتدعها في (والبعض سيساجل بأنه أقحمها على) تراث شيّده الرحابنة بتؤدة عبقرية، ومَزْج خلاق بين موسيقى شرقية وغربية ولاتينية حديثة وكلاسيكية؛ وعلى صوت فيروز، دون سواها، وذاك كان البُعد الأخطر ربما.
لم يكن يسيراً في البدء، إلى أن اتضح سريعاً أنه ميسّر مستساغ مبهج، أن ينصت عشاق فيروز، «جارة القمر» و»ستّ الصباحات» و»الصوت الملائكي»، إلى أغنيات لحّنها زياد الرحباني وكتب كلماتها، من طراز (أو بالأحرى: عيار) «سلّملي عليه»، «عودك رنّان»، «كيفك إنتا»، «صباح ومسا»، «معرفتي فيك»، «داق خلقي»، «عندي ثقة فيك»، «مش قصة هاي»، «مش كاين هيك تكون»! التجاسر على إعلاء هيئة الصوت لدى فيروز تحديداً كان ينطوي، في آن معاً، على ما يشبه انتهاك السموّ البتولي لهذه القامة الشامخة المسيّجة بألف أسطورة وأسطورة؛ ولكنه كان أيضاً والأهمّ يقتادها بعيداً عن دساكر الرحابنة المرسومة بالسحر، وضِيَعهم السابحة في هيولى أخاذة بقدر ما هي رومانسية.
صحيح أنّ هذه السطور استقبلت مسرح زياد الرحباني الشاب بترحاب أقصى وإعجاب بلا حدود، حيث السخرية سوداء بانورامية، والنكتة صارخة تارة أو مواربة بذكاء تارة أخرى، لفظية هنا أو مجازية هناك، والرسائل سياسية يسارية وتقدمية ومناهضة للطائفية والفساد؛ في حقبة لم يكن المسرح اللبناني خلالها متعافياً بما يكفي من تشرذم البيروتَيْن، الشرقية والغربية، ومن تَقابُل أو تكامل أعمال روجيه عساف وجلال خوري وريمون جبارة. كذلك استُقبلت مجازفات زياد الرحباني الكهل قبالة القلاع الحصينة التي أقامها أمام فيروز جمهورٌ مطلق الحماسة لشخصها، مدمن التشبث بخصوصياتها الانفرادية شبه المقدسة.
التتمة الموازية هي الإقرار بأنّ مدخل هذه السطور إلى موسيقى الراحل كانت عمله الموسيقي المبهر «بالأفراح»، 1977، الذي كان صوفيّ الإيمان بالآلات الموسيقية الشرقية (العود، القانون، البزق، الناي، الرق، الطبلة)، وعالي المراهنة على تآلفها واتساقها وارتقائها. وكما هو معروف، حشد زياد الرحباني مهاراته في التوزيع وإعادة التوزيع، إحدى مواهبه الأخرى الكبرى، لألحان «قصقص ورق»، «رقصة تحيات»، «عتّم يا ليل»، «آخد حبيبي»، مقدمة «سهرية»، «يا حمام يا مروّح»، «سألوني الناس»، «يا حبيبي كلما هبّ الهوى»، «شيراك»، و»زوروني».
يبقى أنّ هذه السطور لا تتغافل عن مواقف زياد الرحباني السياسية عموماً، والتعاطف الصريح مع النظام السوري البائد خصوصاً، والتي تعكس ذلك الجانب اللاهي والنزق من شخصيته المركبة، مثلما تُردّ جزئياً إلى خياراته في الاصطفاف خلف «حزب الله». ولكنها لا تطمس ما يُسجّل له من تاريخ وضاء في التعبير الإبداعي الرفيع عن هواجس «الحالة التعبانة» للدراويش والمعتّرين، وكوارث «زمان الطائفية»؛ في لبنان والمحيط العربي، وربما الإنساني.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد