انحراف

mainThumb

27-07-2025 12:30 AM

وبعد أن عبثت به الأقدار، وقف" عادل" الذي صخدته الشمس، وصهرته الهواجر، ينظر إلي شقيقته مبهوتاً حائرا، وهي تجادل في أمر زواجها، لقد التزم السكينة حيناً من الزمن، وانحاز إلى الصرامة، في اخضاع نفسه لأطر العقل، ولم ينساق وراء طبعه، الذي يأنف أن يغض على قذى، أو يقيم على ذل، فليس ثمة شك، أنه لن يترك بن خالته "بكري" ولو تعلق بأستار الكعبة، وعادل بعد أن تحقق من واقعة استهداف شقيقته "مزنة" لزميلاتها في الجامعة، ببيع تلك المساحيق البيضاء، التي تستخدم لتفتيح لون البشرة، تلك المساحيق التي يحتوي معظمها على الزئبق الضار، وغيرها من المواد المسرطنة، التي تسبب أبسط معدلاتها، الحساسية المفرطة، و الفشل الكلوي، وتساقط أهداب العيون، والتهابات الشفاه والفم واللثة، كانت تجري على بكري، وخطيبته مزنة، أكثر من مليون جنيه شهرياً.
ونحن في الحق، نستطيع أن نهتدي لأسباب تهافت فتيات "الجامعة" السمراوات، على تلك المساحيق التي أوضحت شخصية "مزنة"، التي تريد أن تنغمس في الترف، وتتنعم بملذات الحياة، فمزنة التي تتحرق شوقاً إلى هذا الضرب من الحياة، لم تكن تخفي هذه النزعة في نفسها، فهي في الواقع نزعة قديمة، التفت إليها عقلها، وخفق بها قلبها، وتحرك لها لسانها، فمزنة التي نظرت إلى آثار أسلافها، فلم تتبين منها شيئا، غير هذا البيت المتهالك، الذي تسكن فيه مع شقيقها عادل، الموظف بقسم الامدادات الطبية، شقيقها الذي يكبرها بعدة أعوام، لا تتحدث هي معه إلا لماما، منذ أن كان والداها على قيد الحياة، للتفاوت الكبير بينهما في الطباع والميول، فهي تعتقد أنه سطحي وساذج، لأنه عزف عن الزواج من" شذى" الصيدلانية صاحبة القامة المتناسقة، والخصر النحيل، والتي أظهرت حبها له، وحرصها عليه، تلك الغادة الهيفاء، التي يمتلك والدها عدة صيدليات في المدينة، تغاضى عادل عن عشقها له، وشغفها به، وضرب بتدلها عرض الحائط، وتزوج من "رها" بنت عمه، وحب عمره، الموظفة بوزارة الري والموارد المائية.
وعادل الذي يروض الآن جموح غضبه بالصلاة، و يضاءل حميا سخطه بالذكر، وفق أو كاد إلى اتمام مهمته بعد صعوبات جمة، وكان ينتظر أن تتخرج شقيقته التي تبقى لها آخر فصل دراسي لتحصل على بكالريوس الهندسة الكيميائية، فمزنة التي كانت تمدحها زوجته "رها" بوفور عقلها وذكائها، وتقرظها بنبوغها وعبقريتها، هناك صوت يجلجل في أغوار نفسه، يصيح به أن يضربها ضرباً مبرحاً، بعد أن ظفر بحقيقة تجارتها في المساحيق المؤذية من إدارة الجامعة، التي اكتفت بفصلها لعام دراسي واحد، وذلك لمخالفتها للائحة السلوك الطلابي، تلك اللائحة التي تحظر مثل هذا النوع من النشاط التجاري، وعادل الذي لم يكن في وسعه، أن يحيط بخبايا تلك التجارة، التي تتعارض مع منظومة الأخلاق والشيم، التي اعتاد السير في مدنها الفاضلة، أنكر على "بكري" توريط مزنة في هذا الضرب من المغانم، ولم يكن عادل الحانق على بن خالته الذي ينفق على أهله من غير حساب، يتوخى في انكاره، اللفظ الأنيق، والتعبير المنسجم، بل انهال عليه شتماً وتأنيبا، وبكري الذي لاح على وجهه الوجوم والامتعاض، ظلّ على ثباته، وهو يهمهم بكلمات مقتضبة، يذهب عقل عادل في فهمها وتأويلها المذاهب، ولما سكت عن عادل الغضب، أخبره بكري أنه ينتظر زواجه من مزنة، منذ أحقاب وأدهار، وأن الفرضة باتت مواتية لتحقيق ذلك الأمر، فثارت ثائرة عادل، الذي انقض على بكري كالشهاب الراصد، يريد أن يضربه، لولا أن تدخلت "رها" التي طلبت من بكري أن ينصرف، ولم ينصرف بكري إلا بعد نقاش عاصف، وفي نفسه حاجة، وفي قلبه حفيظة تجاه عادل، الذي يعيب عليه دوماً اسرافه في الحياة، وغفلته عن الآخرة.
وعادل الذي شعر بأن الخيبة تلاحقه في كل مكان، مكث قابعاً في غرفته، مطرقاً مغرقاً في تفكيره، حتى دخلت عليه مزنة التي رغب عنها، وضاق بها، ولم يعد يعاتبها، أو يسأل عنها، وغايتها التي قصرت عليها جهدها، ووقفت عليها حياتها، أن تقنعه بالموافقة على اقترانها ببكري في الشهور المقبلة، وعادل الذي كانت نيته أن يصدف عن رغبة مزنة، وتنازعه نفسه إلى صدها، ورفض طلبها، أحس بأن امتناعه، واعراضه، لن يرضي حاجة، أو يشفي علة، بل قد يجر عليه احجامه عن تزوجيها لبكري الذي لا يطيق جهله، ألواناً من المشقة والعنت، التي قد يرزح تحت نيرها أعواما طوال، خاصة بعد أن أحاط برغبات شقيقته، وكشف دخيلها، وعلم ما اشتملت عليه من خطر وأضرار، إذن من الحكمة والصواب، أن يبارك زواج مزنة، التي أخفق في تشكيل أخلاقها، وتوجيهها إلى الحسنى، من بن خالتها بكري الذي تشوب شخصيته مثالب لا حصر لها.
ومزنة التي انصرفت إلى حياتها ورفاهيتها، وانقطعت حتى عن زيارة عادل ورها، من المحقق أنها قد تغيرت كلها، منذ ذلك اليوم الذي تزوجت فيه بكري، فأضحت السمات الطاغية على شخصيتها، هي حب الظهور، والمبالغة والتهويل، في التفاخر والمباهاة بأملاكها، وتعتريها دائماً رغبة محمومة في التغاضي عن كل مجال يتعلق بشئون ماضيها، باتت هذه الخصال السيئة متغلغة في كل أعماقها، فلا يوجد تصرف، ولا شعور، ولا فكر، لا تطل فيه هذه المظاهر الجلية، ولعل الشيء الذي لا يداخلنا فيه شك، أو تخالطنا فيه ريبة، أن هذه الخصال المؤثلة داخل كيانها، ولم تكن مفروضة عليها من الخارج، هي التي دفعتها لاكمال دراستها، وهي التي جعلتها تعود إلى مفاهيمها المنحرفة كاملة، فتنخرط في استغلال كل الطاقات الضخمة الممنوحة لعقلها بصورة سالبة، فقد أمست بضاعتها الفاجرة، التي زادت نفسها الضحلة، نفساً أخرى، تريها الوضاعة مجردة كما هي في حقيقتها، هي التجارة في تلك الألوان التي لا تدركها الألفاظ، ولا يقدر عليها التعبير، أضحت التجارة الرابحة لمزنة، هي كل متاع حسي، تشرئب إليه النفس الفاجرة، فهي تلبي بعقاقيرها، وأدويتها، وحاشيتها التي نزعت برقع الفضيلة، حاجة أصحاب الازدواج العاطفي، و الاختلالات الغريزية، والعواطف المنحرفة، وظلت متصلة بهذه الأنشطة المعوجة، التي تستغرق جميع يومها، تضيف إليها في غداة كل يوم نشاطا منفصلاً متخصصا، يلبي حاجة الرغبات العنيفة التي تحتاج إلى الإشباع، حتى قضت عليها في مساء يوم حالك هي وزوجها، "الأيدي الناهبة" التي حملت أسلاباُ ثقيلة فيها كل مالهما، الذي دهى اللصوص الكلل والفتور في عده.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد