فلنعد إلى عصبيتنا

mainThumb

24-07-2025 01:03 AM

لقد أرخى عصرُنا ستارا من الظلام على وجه البشرية. لا قانونٌ بقي ولا عدل، لا ضميرٌ حيٌّ ولا كرامة. الشعارات التي تصدّرتها واجهات الحداثة من حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية، لم تكن إلا أصناما مزيفة من صكوك الدعاية، بينما باتت القوى العالمية والدول والمؤسسات الدولية، والمنظمات غير الحكومية الخاضعة لها، تتحرك كعصابة إجرامية منظمة. أما الدول والشعوب، فلم تجرؤ حتى على اتخاذ خطوة واحدة لأجل غزة. أطفال يموتون جوعا أمام أعيننا، والعالم يكتفي بالمشاهدة، والحقيقة اليوم هي أن الكارثة ليست في غزة، بل في قلب الإنسانية ذاتها.
ماتت الديمقراطية.. وصمت العدل.. وانهارت الإنسانية.. كل القيم التي زُعِم أنها تُشكّل أركان هذا العصر الحديث، سقطت تحت أنقاض غزة. سقطت الدول، وسقط معها مَن علّقوا عليها آمالهم، غير أن الحقيقة الأعمق هي أن السقوط الأكبر وقع في ضمير الإنسانية ذاتها.
لهذا، لا بدّ لنا أن نعود إلى جذورنا، إلى تقاليدنا العريقة، إلى عصبيتنا، ففي زمن تأنق فيه القتلة بثياب التحضّر، كان في نظام القبيلة والعشيرة في الماضي من المروءة والشهامة والعدل، ما لم نعد نراه اليوم في أكثر الدول تحضرا. العصبية لم تكن مجرد رابط دم، بل كانت وقفة عزّ وشرف، أما اليوم، فإن الجرائم التي ترتكبها الولايات المتحدة، وبعض الدول الغربية بالتعاون مع إسرائيل، بلغت حدّا من الانحطاط والبربرية والوقاحة، لم يسجّله التاريخ من قبل، يُباد الأبرياء في غزة بالقصف من الجو والبر والبحر، ويُحرَم الرضّع حتى من الحليب! لقد أنسونا تركيبتنا الاجتماعية طوال قرنين من الزمن. وشُوّهت صورة العشائر، وشُتم الشيوخ، وسُخِر من البنى القبلية، تم إخضاع أذهاننا عبر المسلسلات والأفلام والمناهج الأكاديمية. استخدمت جيوش الدول القومية لقمع شعوبها لصالح القوى الكبرى، بينما كانت المنظمات غير الحكومية البديل المُوجَّه الذي يُسيطر عليه بسهولة. أما العصبية، فقد كانت قوة لا يمكن التحكم بها، ولهذا سُحِقت. اليمن، ليبيا، العراق، باكستان، أفغانستان.. وُصِفَت جميعها بأنها «ذات مشاكل»، فقط لأن العصبية فيها ما زالت حيّة. ما جرى في سوريا يُجسّد هذه الحقيقة بأجلى صورها. عندما حرّكت إسرائيل وأمريكا الدروز، وحاول الجيش السوري التدخل، تم تهديده، بل قصفت دمشق نفسها. تم تقويض سيادة الدولة، وسكت العالم. بلغ التوحّش ذروته. يتم احتلال جنوب سوريا باستخدام الدروز، وبدأ تنفيذ خطة علنية لدمج الخرائط باستخدام تنظيم «PYD/YPG».

لكن، من وقف في وجه هذا الحصار؟ حين صمتت الدول، وتجمدت الجيوش، برز فاعل جديد إلى الساحة: العشائر. نعم، العصبية، هذه القوة المنسية، نهضت من جديد. هذه الموجة الغاضبة التي انطلقت من سوريا لم تكن محصورة فيها، بل امتدّت إلى مصر والأردن والسعودية والعراق. شعوبٌ كانت صامتة استجابت لنداء الدم والكرامة. لقد أظهرت لنا مجازر غزة أن الدول القومية قد شُلّت، لم تعد قادرة على الحركة. لذا، يجب على عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف أن يعبروا الحدود. أن يطوّقوا إسرائيل. فالغضب الشعبي، الطوفان المدني، لا تستطيع أي قوة عظمى أن توقفه. والعشائر اليوم بدأت بذلك. سيحاولون تصوير الأمر على أنه صراع طائفي. وسيُسوّقون هذه الصحوة باعتبارها تهديدا. لكن التهديد الحقيقي ليس من العشائر، بل من إسرائيل نفسها. إن القوى الحية في هذه المنطقة يجب أن تتحرك الآن.. القبائل، والجماعات، والعشائر يجب أن تنهض للدفاع عن الأوطان. لم تعد الجغرافيا قدرا، بل أصبحت سلاحا. وهذا السلاح أقوى من القنبلة النووية.
واليوم، لا يُفعَّل إلا واحدٌ من هذه الأسلحة: العصبية. لكنه لا يكفي. لقلب مجرى التاريخ، نحن بحاجة إلى المزيد. حتى تصل إسرائيل إلى مرحلة لا تقوى فيها على ارتكاب مجازر جديدة، يجب ألا تهدأ هذه الموجة، لا بدّ أن تستمر هذه العاصفة. ويجب دعم قوى المقاومة المحلية، خارج جيوش الدول القومية. ويجب ألا ننسى؛ إننا أمام بداية عصر جديد. عصرٌ قد يشهد يقظة أبناء هذه المنطقة، الذين تم سحقهم طوال قرن مضى. ربما تكون هذه أولى خطوات بناء قوة محلية ذات كرامة، خارج ثنائية الدولة والمنظمة. العصبية تعود. وليست مجرد بنية اجتماعية، بل هي إعادة بناءٍ للعدالة، وللكرامة، ولمعنى المقاومة.


كاتب تركي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد