سيدي أبي مدين التلمساني/ بين العرفانية والتخييل

mainThumb

23-07-2025 12:51 AM

«سائح في أرض الله» أو مكاشفات سيدي أبي مدين شعيب (صدرت عن دار «صوت الكتب» سنة 2025. 288 صفحة) هو العنوان الذي اختاره الروائي الجزائري بلقاسم بن عاشور لسردية أبي مدين شعيب، دفين مدينة تلمسان الأندلسية التي عوضته حب إشبيلية.
نحن بصدد شخصية ثقيلة ثقافياً وتجرية وصوفية. يقول عنه الشيخ الأكبر ابن عربي: «معلم المعلمين» أو شيخ الشيوخ. هو أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري الأندلسي (509 هـ/ 1115 م – 594 هـ/ 1198). إضافة إلى تصوفه وتفقهه وشعره، يعد مؤسس إحدى أهم مدارس التصوف في البلاد المغاربية والأندلس. تعلم في إشبيلية وفاس، وقضى أغلب حياته في بجاية حيث كثر مريدوه وأتباعه الذين آمنوا به، فأصبح قطباً للحب، محبوباً ومقرباً ومصدراً للصلح بين المختلفين. لم يحسب حساب الحساد المضادين له. فوشوا به عند الأمير يعقوب المنصور الموحدي، فبعث إليه للقدوم عليه؛ لينظر في التهم الموجهة له بأنه خطر على الدولة الموحدية؟ لم يتهرب من قناعاته، بل سلك طريق الشائك للدفاع عن نفسه مما نسب إليه. في الطريق أصيب بوعكة صحية، وتوفي على هضبة «العباد» المشرفة على تلمسان. فبنى له المرينيون ضريحاً ومسجداً يليقان بمقامه ومدرسة لتعليم النشء تعاليمه الدينية السمحة. خلف في رحلته الصوفية مؤلفات كثيرة في التصوف، والدروس الفقهية، وديواناً في الشعر الصوفي، وتصانيف مرجعية من بينها «أنس الوحيد ونزهة المريد».
رواية «سائح في أرض الله» حاولت أن ترصد هذه الرحلة منذ ولادته وما روته له الجدة، حتى النهاية على هضبة تلمسان. نفذ بلقاسم ما وعد به قراءه في بداية هذه السنة. في جلسة حوارية في برنامج القلم التلفزيوني، كان بلقاسم قد أعلن لقرائه أنه يشتغل منذ سنوات على واحد من كبار الصوفيين الذين خلفوا وراءهم أثراً ثقافياً وصوفياً طيباً، ولم يلق الاهتمام الإبداعي والتخييلي الذي يليق به لتحريره من قداسة التاريخ. وحده التخييل الروائي يستطيع فعل ذلك. لم تكن حياته إلا لحظة حلم تخللته مراتب الاقتراب من الملكوت الأعلى، في رحلة البحث عن المعنى المتفرد كما الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، وكما بقية كبار الصوفيين المغاربيين الذي أموا بلاد المشرق.
من خلال 288 صفحة، يسرد الروائي رحلة الشيخ التي قادته من القدس إلى العباد على مشارف الحاضرة الأندلسية، تلمسان. اختار الروائي فن الرحلة الاستكشافية للمحيط وللذات. ومن أجل حميمية أكثر في السرد والابتعاد عن جفاف موضوعية التاريخي، اختار الروائي ضمير المتكلم في صيغة سيرة ذاتية يرويها سيدي أبي مدين شعيب هو بنفسه. السيرة بهذا الشكل تسمح باستبطان الروح ومكامن الذات التي لا يعرفها إلا صاحبها «أنا الفقير إلى الله شعيب بن الحسين الأندلسي وولادة، حفيد المجاهد الأنصاري الخزرجي نسباً. سماني أبي شعيباً تبركاً بنبي الله شعيب عليه السلام. لا أفتخر بنسبي، عبد أنا انتشله الله من مجاهل الخلق إلى حضرته وستره بلطفه» ص 11. جملة بدئية طويلة incipit تتجلى فيها سلسلة من العناصر المكونة لشخصية سيدي أبي مدين، بدءاً من أصوله الأولى وامتداداتها العربية، والموقف من النسب الذي لا يعني الشيء الكثير بالنسبة له، على الرغم من أصالته، الإنسان يقاس بجهوده وعمله. وهو بذلك يرفض فكرة التخفي وراء النسب الشريف؛ لأن الذي يهمه في النهاية هي المآلات العظيمة لتجربته الحياتية، وليس العبور في نفق الحياة إلا سلسلة من المراتب المقربة من هذا المبتغى العالي. وربما عيشه في مجتمع متشكل من الاختلاف هو الذي قاده نحو المكاشفة الكبرى التي تقبل الآخر كيفما كان، المهم أن يكون شريكاً في خير الأمة. مفهوم ليس بعيداً عن المواطنة كما يتجلى اليوم في الثقافة الغربية: «فتحت عيني على مجتمع خليط الأجناس البشرية من عرب وبربر وإفرنج ويهود، متباين الملل والنحل، متنوع الألسن» ص11.

وكان قد تعلم لغة هؤلاء الأقوام وسبر أديانهم من خلال المعاشرة وحضور الولائم التي كان يرافق فيها، التي شكلت له مرجعاً حياتياً مهماً. فهي التي حمته من قسوة الشتاء وأطعمته في لحظات جوعه وهو صغير، بالحساء الساخن وحبات التين المجفف ورغيف من الشعير. كانت تبيع نسيجها، وبه كانت تساعد العائلة بحرفتها التي ورثتها عن الأجداد. وهي التي روت له تفاصيل ولادته وكيف استولى الإفرنجة على أراضيهم الخصبة ورموهم في الأحراش اليابسة وسلطوا عليهم الفقر المدقع. فاللحم لا يرى إلا في العيد، الشعيرة التي احتفظ بها الأندلسيون بقوة.
يذهب سيدي أبي مدين شعيب بعيداً في فكره الإنساني والأممي عندما يعلن وهو يسرد حياته «كل أرض الله موطني» وربما تولد عنوان الرواية من هذه اللحظة «سائح في أرض الله» والسياحة هنا رديف للهيام بدون بوصلة إلا وجه الله والمبتغى الصوفي الذي يعتبر الأرض والسماء وما عليهما هي من ملكوت الله. فلا حدود لسلطانه. لا قوة تمنع الروح من الارتحال نحو أمكنتها الخفية.
ويركز الروائي وهو معتكف على البحث مثل الأنثروبولوجي، على كل ما يميز مناطق حياته، مثل وقائع الأعراس في الأندلس. الغريب أنها تشبه إلى اليوم الأعراس التلمسانية، بما في ذلك خرقة العذرية التي تتراقص بها النسوة.
مثل تجربة حي بن يقظان لابن طفيل، يكتشف سيدي أبي مدين كل شيء بالتجربة الحية، بما في ذلك الحياة والموت، الفارق بينهما أن شعيب لا يعود إلى غابته التي تشكل أمانه، ولكنه يعيد صياغة الحياة وفق رؤاه.

تجربة وفاة الأب تبعته قسوة وفاة الأم، ثم الجدة التي شكلت ملجأ ليس فقط عاطفياً ولكن اقتصادياً أيضاً، إذ بفضل نولها استطاعت العائلة أن تلبس وتأكل وتستر نفسها، ثم انتقاله إلى الرعي الذي يقوده إليه شقيقه الأكبر ويحرمه من مزايا التعلم. لكنه ظل مصراً على السير في مسالك القلب مهما كان الثمن. من هنا تبدأ رحلته الكشفية. يترك الأغنام، ويهرب من البيت؛ لكن شقيقه الأكبر يدركه ويضربه بسيفه ليفلق رأسه، لكن سيدي بومدين يتلقى الضربة بعصاه التي انكسر السيف الثقيل عليها. كانت تلك العلامة الأولى لكرامات لاحقة. يرتعب الشقيق ويعتذر لأخيه فيتركه يسيح في الأرض. حتى الشيخ الذي اصطاد بفضل حضوره سمكة كبيرة بعد فترة لا سمكة فيها. والطفل المحموم الذي ضمه إلى صدره فشفي، كلها كانت علامات لارتحالات غير عادية. وتستمر الرحلة من إشبيلية إلى طنجة حيث يلتقي بسهيل ووالده التاجر الذي يرتحل معه الى سبتة، وكان تأثيره إيجابياً على القافلة التجارية، إذ كانت أرباحها وفيرة. يتعرف على امرأة بالكاد رآها وأصيب بها، فتشغله فكرياً.
تنتقل القافلة إلى مراكش. عشرة أيام كانت كافية للوصول إلى فاس بعد تجربة عسكرية لم تكن تعنيه كثيراً. وتنتهي الرحلة على شرفات تلمسان بعد أن تحولت الرحلة إلى رحلة عرفانية صوفية أصبح فيها مرجعاً مهماً.
حتى يوصل سحر الرحلة الذاتية، اختار بلقاسم بن عاشور اللغة البيضاء التي تصل الى قارئها ولا تظل سجينة اللغة التراثية بحجة الموضوع القديم، لأن الروائي يدرك أن قارئه من هذا الزمن وليس من القرن الثاني عشر. لكن لهذه اللغة مزالق أدبية خفيفة يجب الحذر منها، وهي الحديث عن أشياء ظهرت في القرون التالية، كالبوصلة مثلاً التي تم استعمالها في الملاحة في القرن الثالث عشر. وبعض الاستعمالات اللغوية التي وردت على فم سيدي أبي مدين لم تكن موجودة في زمانه، لكنها محدودة؛ تظهر أحياناً عندما يكون البطل هو من يروي قصته.
رواية «سائح في أرض الله» تضعنا وجهاً لوجه أمام قطب صوفي لا يمكن تخطيه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد