«غوغل» القاهر كشف المستور
من أكثر العناوين الإعلامية التي لها مفعول السحر على أي قارئ وباستطاعتها جذب جميع أطياف الجمهور على مرّ العصور، هي تلك التي تستخدم مصطلحات مثل «القصّة الكاملة» أو «كشف حقيقة (أمر ما)». والغريب أنه في كلّ مرة تنجح الخطة ويستطيع الإعلامي أو المبدع جذب القارئ بتلك الحيلة المتكررة. فهل تساءلت يومًا لماذا لا يزال البشر، على اختلاف هوياتهم ومستوياتهم الثقافية، تخدعهم تلك الحيلة المعروفة، أو على الأقل يطالعون الموضوعات التي تحظى بتلك العناوين، في حين يحاولون إقناع أنفسهم أنهم يفعلون ذلك فقط بدافع الفضول أو حتى لتفنيد الأمر، بينما لا يزال مستقِرًّا في قرارة أنفسهم أمنية سماع الحقيقة؟
في حقيقة الأمر، يكمن لبّ المشكلة في مصطلح ومفهوم «الحقيقة»، وللوصول لكليهما أو حتى لأيٍّ منهما، أفنى الفلاسفة والمفكِّرون على مرّ العصور عصارة جهودهم وأفكارهم، إلى أن خلصوا إلى التسليم بأن الحقيقة ما هي إلَّا أمر نسبي، ويختلف مدى اعتباره صادقًا وثابتًا من شخص لآخر، ولا يمكن أيضًا تطبيقه وتعميمه على مجتمعات وعصور مختلفة؛ لأن المجتمعات بدورها شديدة التأثُّر بما يحيطها من موجودات، وما يحدث بها من متغيِّرات. بيد أنّ من وضع ذاك المفهوم الذي يؤكِّد نسبية الحقيقة، وصنع منه مبدأ شمولياً، عمل بدوره على فرضه كحقيقة ثابتة ومستقِّرة، لكنه لم يتساءل قط عن السبب وراء تلك التغييّرات المتلاحقة وعدم ثبات الحقائق عبر الأزمنة. فمن الملاحظ أن المسبِّب الرئيسي لهذا الاختلاف والتنوُّع هو الإنسان في حدّ ذاته، ذاك الإنسان الذي يضع القوانين، وقد يحنث بها أويخالفها، في نفس اللحظة؛ فالسعي وراء تحقيق مصالح شخصية سبب رئيس في نسبية الحقيقة.
قد يظنّ البعض أن هناك أفراداً قد قاموا على سنّ القوانين ورواية الحقائق المجرَّدة؛ لأنهم ببساطة لن يستفيدوا من نشر الأكاذيب، لكن المنطق ويسبقه في هذا الدراسات النفسية والأبحاث السلوكية، تؤكد جميعًا أن «كل ابن آدم يكذب»، وإن كان الكذب يحدث على مستوايات متباينة، ولأسباب مختلفة، قد يُعتَقد أو يتوهَّم قائلها أنها للصالح العام، بيد أنّه في كثير من الأحيان، قد لا يعلم العقلاء أنهم يشاركون في عمليات ممنهجة لتزييف الحقائق.
فالكذب أمر نفسي بالدرجة الأولى، ومستقرُّه غالبًا هو العقل الباطن، وهذا في حال الأشخاص الرَّاغبين عن قول الأكاذيب. ويؤكِّد العلماء أن «الكذب» هو لون من «آليات الدفاع عن الذَّات» الذي يوهم الفرد بأنه قادر على فرض سيطرته على بعض المواقف من خلال التلاعب؛ فآلية الدفاع «الظاهرية» تلك تمنع الفرد من الشعور بالضعف، وكذلك تجعله محاطًا بهالة من الغموض، وغير منفتح على الآخرين، وبهذا يتَّقي خطر الوقوع في الشخصية الشفَّافة التي يصبح من السهل اكتشاف مواطن ضعفها.
وهناك ألوان متعددة من الكذب؛ وأبغض ألوانه هو ذاك المراد به جني مكاسب شخصية أو اجتماعية. في حين أنه غالبًا ما يلجأ أفراد صالحة للكذب لعدم الإضرار بآخرين أو حتى للمجاملة، وقد يستخدمه البعض لتجميل صورتهم الاجتماعية بوضع لمسات بسيطة، ويطلق على هذا النوع «الكذب الأبيض». إلَّا أن أسوأ أنواع الكذب على الإطلاق هو ذاك الذي يؤذي الفرد ذاته، والذي يواصل فيه الشخص إطلاق الأكاذيب بينما يكون على دراية تامة بأن الآخرين يعلمون أنه كاذب، ولا يصدِّقون أيّاً مما يتفوَّه به، بل إنهم قد يتحرّون مدى صدق كل حكاية تصدر منه من مصادر عدَّة. والسبب الحقيقى في وجود هذا النوع من الأشخاص هو أنَّ تلك الفئات تشعر بضعف داخلي شديد وتشعر حتى بالخيبة وفقدان الثقة في نفسها، ما يجعلها تحتقر ذاتها. ولهذا السبب، يعتقدون أن الكذب هو وسيلة التواصل الوحيدة مع الآخرين، وأنه في حال رفض وجودهم اجتماعيًا، سيكون هناك سبب، على الأقل، واضح لذلك. وهذا الوضع عندهم أفضل بكثير من لفظ المجتمع لأفراد صادقين دون أدنى سبب واضح.
ولقد مسّ الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز Charles Dickens (1812-1870) تلك المعضلة في روايته «توقُّعات عظيمة» Great Expectations، حينما كان المجرم يخفي هويته ويخفي ما يفعله من عمل خيري لأنه راغب عن الكذب، ويكفيه الشعور بأنه يحترم ذاته. وعلى النقيض، فإن السيِّدة الأرستقراطية العجوز تنغمس في سلاسل طويلة من الكذب حتى تحافظ على مكانتها في المجتمع وتحظى باحترام زائف إلى أن تنكشف حقيقتها وتفقد احترامها بين الجميع.
وعلى هذا الأساس، وبناء على كل الأسباب والحالات السَّالفة الذِّكر، غالبًا ما تكون نتائج استطلاعات الرأي غير دقيقة، وكذلك ينطبق الحال على عمليات جمع المعلومات والإحصاء، التي تتم جميعها من خلال أفراد يسيطر عليهم الهوى البشري، أو حتى النسيان غير المقصود الذي يقوم به العقل الباطن لتحسين صورة الفرد أمام نفسه، حتى ولو للحظات قليلة.
ومع تفشِّي التكنولوجيا والرقمنة، يلاحظ أن الحواجز النفسية التي يضعها البشر تتلاشى، وهذا لتأكُّد الأفراد أن الآلة لن تقوم بالحكم عليهم أو إفشاء أدق أسرارهم. وحتى ولو لم تحفظ السرّ، سيكون هذا في إطار دراسات موضوعية يتم إجراؤها على الملايين من البشر، وبشكل عشوائي، ولا يشار فيها أبدًا لأحد الأشخاص عينه بالبنان.
ويناقش سيث ستيفنز-ديفيدويتز Seth Stephens-Davidowitz في كتابه «الجميع يكذب» Everybody Lies تلك الأفكاربصورة مستفيضة، ولكنه يشير إلى حقيقة جديدة، وهي إمكانية استغلال المعلومات المتوافرة على الإنترنت، وخاصة الأسئلة التي يتم توجيهها لـ«غوغل»، لتكوين قواعد بيانات جديدة وصادقة تتبوَّأ مكان جميع قواعد البيانات غير الدقيقة، وهذا لأنه وسيلة غير مباشرة لجمع المعلومات. فعلى سبيل المثال، يمكن من خلال الأسئلة التي يوجهها أفراد في منطقة أو دولة ما، التنبؤ بتفشي أحد الأمراض أو الفيروسات، أو انتشار بعض الأمراض أو الأفكار بين فئات عمرية مختلفة، أو يمكن استكشاف التغييرات التي تطرأ على الحالة المزاجية على الفئات العمرية المتباينة، أو كشف بؤر الجريمة، ومنها أيضًا يمكن التنبؤ بالجرائم قبل حدوثها.
ولكن تلك البيانات لا يمكن أيضًا الاستهانة بها؛ لأنها سلاح ذو حدّين؛ فالصدق المجرَّد الذي يظهر طبيعة التفس البشرية أمام الآلات المرقمنة، تم استغلاله بطرق مرعبة في السيطرة على عقول فئات عديدة من البشر والتلاعب بتوجهاتهم الفكرية والنفسية. ولعل أشهر الأمثلة على الإطلاق فضيحة الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016؛ خلال ولاية ترامب الأولى أشيع أن دونالد ترامب استأجر شركة لتحليل البيانات على السوشيال ميديا، وخاصة فيسبوك، ومن خلال البيانات تم التأثير بصورة غير مباشرة على مزاج الناخبين وتغذيتهم بأفكار لصالح مرشح معيَّن، وبالتالي أثَّر هذا بدوره على اختياراتهم. فلقد خاطبت الخوارزميات العقل الباطل للجمهور العريض، وجعلتهم يعتقدون أن المرشَّح الأمثل هو «ترامب».
ومن ناحية أخرى، كشفت البيانات التي تم تحليلها أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة (2024)، أن العنصرية لا تزال تتحكَّم في آراء الشعب الأمريكي. ولقد أماط اللثام عن هذا الأسئلة التي تم توجيهها لجوجل خلال مرحلة الانتخاب. وعلى ذلك، أصبح من المتوقع، إلى حد بعيد، عدم فوز المرشحة الرئاسية كامالا هاريس. فالبيانات لا تكذب، ولكنها طريقة سريعة لتزييف الوعي. وبالطريقة نفسها، تجعل البشر لقمة سائغة أمام الرَّاغبين في الانتقال للرقمنة الكاملة وتهميش البشر.
ومن ثمَّ، ينتشر في الوقت الحالي اتجاهان متناقضان تمامًا. ويعنى الاتجاه الأوَّل بأن يجعل من كل «تطبيق» Application وسيلة لجمع بيانات المستخدم بكل الوسائل المتاحة، وقد يصل التطبيق إلى حد غير متوقَّع عندما يتقفَّى الصور وبصمة الصوت وطريقة التصرُّف في المواقف المختلفة، وبيع تلك البيانات لشركات تطوير الذكاء الاصطناعي، التي من خلالها تتمكَّن من تدريبه بطريقة رخيصة. وفي الوقت نفسه، تتمكَّن من خلق وعي بشري مستنسخ منقول من أشخاص عاشوا وتعايشوا مع الواقع.
ومن ثمَّ، انتشر اتجاه مناوئ يحذِّر البشر من إجراء محادثات شخصية مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وأيضًا عدم إعطاء الإذن للتطبيقات التي يستخدمونها لجمع بياناتهم الشخصية، وكذلك يروِّجون أنه من الأحرى نبذها والتحذير من استخدامها، وإحلالها ببدائل آمنة.
وبعد استعراض الأمر من جميع الزوايا، ألا يزال البعض يعتقد أن الرقمنة ستوفِّر البديل الصادق الذي لا يتوانى عن قول الحقيقة وعدم اللجوء لتزييفها؟ وهل سيكون من السهل أيضًا الحصول على الحقيقة؟ أعتقد أن الإجابة التي تُعبِّر عن «الحقيقة الصادقة» تتطلب إعادة النظر، وإعطاء البشر فرصاً كثيرة أخرى، هذا بافتراض وجود «حقيقة صادقة».
أبو السعود يتولى مهام رئيس الحكومة مؤقتًا
ارتفاع قتلى الاحتلال بخان يونس بعد هجوم القسام
الاحتلال يقتحم قلقيلية وينتشر في شوارعها
أسعار الخضار والفواكة في السوق المركزي .. الأحد
أول تعليق من إسرائيل على اعتراض السفينة حنظلة
شاحنات مساعدات تبدأ بالتوجه من مصر إلى غزة
خارطة تسويات دولية تتشكل عبر المفاوضات
وزير الزراعة يشارك بقمة الغذاء العالمية بأديس أبابا
تأثير الأجواء الحارة يستمر حتى الثلاثاء المقبل
غزة هاشم وقدس الوصاية ستبقى تتصدر الدبلوماسية الأردنية
قوافل إغاثة أردنية جديدة تتجه لغزة .. فيديو
سوريا الجديدة .. مسؤوليات التحول والعبور نحو المستقبل
مجاعة غزة تلقي بظلالها على مهرجان جرش وحضور محدود
التربية تدعو هؤلاء لإجراء المقابلات الشخصية لوظيفة معلم/ـة
مكافحة الأوبئة يعلن عن وظائف شاغرة .. صورة
رئيس وزراء السودان يتعهد بإعمار الخرطوم
توضيح من الأرصاد بشأن حالة الطقس حتى الاثنين
تعديل نظام تدريسي جامعة البلقاء لاحتساب المؤهلات الجديدة
انخفاض أسعار المركبات في الأردن بعد التخفيضات
قرارات مرتقبة من الضمان الاجتماعي
مواعيد انطلاق امتحانات التعليم الإضافي .. رابط
مهم للمواطنين بشأن إغلاق طريق في عجلون
فصل مبرمج للتيار الكهربائي عن هذه المناطق .. أسماء
فصل التيار الكهربائي عن هذه المناطق الثلاثاء