الحب والبغض: "مسافة الأمان بينهما"

mainThumb

02-08-2025 02:01 PM

يُقال في الموروث الشعبي "بين الحب والبغض شعرة"، وهي عبارة تختزل في كلماتها القليلة فلسفة إنسانية عميقة تصف تقلب المشاعر البشرية، وتناقضاتها، وحدودها الهشة. فكم من محبة انقلبت فجأة إلى كراهية عارمة؟ وكم من خصومة تحولت إلى مودة راسخة؟ هل هي هشاشة في العاطفة؟ أم طبيعة متجذرة في الإنسان؟

في فلسفة المشاعر، لا يُنظر إلى الحب والبغض كمجرد مشاعر متعارضة، بل كقوتين متداخلتين تنبثقان من نفس الجذر العاطفي. كلاهما يعبّران عن تعلق عميق، ولكن بصورة معكوسة. فالحب هو الانجذاب والقبول والاحتواء، بينما البغض هو الرفض والاشمئزاز والإقصاء. ومع ذلك، فهما وجهان لعملة واحدة: التفاعل الوجداني مع الآخر.

يقول الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه": "من يحب بقوة يكره بقوة". وهذه العبارة تضيء جانبًا خفيًا في النفس البشرية، فالحب لا يكون قويًا إلا حينما يلامس جوهر الكينونة، وكذلك الكره، لا ينبع من فراغ، بل غالبًا ما يكون نتيجة خيبة في علاقة كنا نتوقع منها الكثير. لذا فالألم الذي يخلفه الحبيب، لا يشبه أي ألم، لأنه يأتي من أقرب الناس إلى القلب.

وعلى الصعيد النفسي، يشير علماء النفس إلى أن التقلب بين الحب والبغض، لا يدل على ضعف في الشخصية، بل على حساسية وجدانية عالية. الإنسان بطبعه كائن معقد، يحمل داخله طيفًا واسعًا من المشاعر، قد تتنافر أحيانًا، لكنها تشكل في مجموعها هويته الشعورية.

أما مجتمعيًا، فتتقاطع هذه الثنائية في العلاقات اليومية: صداقة تنهار بسبب سوء فهم، أو خصومة تنتهي بتسامح. وفي العلاقات الزوجية خاصة، يتجلى هذا التداخل بوضوح. فكثير من حالات الطلاق، لا تحدث بسبب فقدان الحب، بل بسبب تراكم الجراح التي لم تجد طريقها للشفاء. والعكس صحيح، فقد تعود العلاقة أقوى بعد خلاف حاد، لأن الألم أزاح الأقنعة، وفتح المجال للصدق.

لكن ما الذي يجعل هذه الشعرة الدقيقة تنقطع؟ وهل يمكن حمايتها من التمزق؟ الجواب يكمن في الوعي. عندما نعي أن مشاعرنا قابلة للتقلب، وأن الآخر ليس دائمًا كما نتخيله، نصبح أكثر مرونة، وأقل تطرفًا. فنترك للحب أن يكون ناضجًا، لا عاطفة متهورة، وللكره أن يُضبط بالعقل لا أن ينفلت كوحش غاضب.

وفي نهاية المطاف، تظل هذه "الشعرة" رمزية. لا يمكننا الإمساك بها، لكنها تذكرنا بأن أجمل العلاقات وأصعبها، تتطلب وعيًا عاطفيًا، وصبرًا فلسفيًا، وقلبًا يعرف كيف يحب دون أن يغفل حدود الوجع .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد