هذا هو سبب البلاء

mainThumb

10-08-2025 12:58 AM

الجهل ليس نقصاً في المعرفة، بل هو سلاح فتاك، والتعصب ليس مجرد انحياز، بل هو أداة قتل جماعي. حين يجتمع الاثنان في مجتمع، يصبح الطريق إلى الخراب أقصر من رمشة عين، ويصبح الشعب هو من يهدم بيته بيديه، بينما الطغاة يصفقون من أبراجهم العالية.
لا ينهض شعب يرزح تحت الجهل، ولا يعيش شعب متعصب إلا في حرب دائمة. الجهل يحرمك من رؤية عدوك الحقيقي، والتعصب يجعلك تعتقد أن أخاك في الوطن هو العدو الذي يجب سحقه.
كيف يحكمك الطغاة؟ حين تهتز العروش، لا يهرع المستبد إلى معالجة الفقر أو كبح الفساد أو إصلاح التعليم، بل يفتح خزائنه السوداء ويخرج منها أقدم أسلحته وأكثرها خبثاً: الفتنة الداخلية. تتحرك ماكينة الإعلام المأجورة، ويعلو صوت المنابر والمنصات والمواقع المشبوهة، وتبدأ رسائل الكراهية تغزو العقول. فجأة، العدو لم يعد الفقر ولا البطالة ولا النهب… بل «الطائفة الأخرى» أو «الأقلية الخائنة» أو «المؤامرة الخارجية». وهكذا ينشغل الشعب بقتال نفسه، بينما النظام يزداد قوة وبطشاً وثروة وفساداً وتمدداً وتجذراً وطغياناً.
هناك أمثلة عربية وأجنبية كثيرة على خراب الجهل والتعصب: العراق بعد 2003، تحوّل من بلد الحضارات إلى مسرح لاقتتال طائفي دموي. السياسيون غذّوا الانقسام بين السنة والشيعة والأكراد، حتى صار الانتماء الطائفي أهم من الانتماء للوطن، بينما مليارات الدولارات نُهبت بلا حسيب.
سوريا: انتفاضة شعبية تحولت إلى حرب شاملة، لأن النظام لعب على وتر الطائفية، وأطلق العنان للجماعات المتطرفة، فتحول الصراع من حرية وكرامة إلى حرب أهلية، والنتيجة: نصف البلد دُمّر، وملايين شُرّدوا، والطغاة جلسوا على طاولة المفاوضات يتاجرون بالدماء والدمار. وبدل أن ينتقل السوريون بعد سقوط النظام إلى عهد جديد قائم على المواطنة، فقد عادوا إلى المربع الأول ليذبحوا بعضهم بعضاً على الهوية الطائفية. لقد عمل النظام الأسدي الساقط لعقود على استثمار التعصب والجهل لدى السوريين كي يعيش على تناقضاتهم وتناحرهم. وقد نجح نجاحاً باهراً، لكن السوريين لم يتعلموا الدرس بعد سقوط النظام، بل استمروا يطبقون وصفته القاتلة القائمة على التعصب والتمترس الطائفي. وقد شاهدنا المذابح والمجازر الرهيبة في الساحل والسوري والسويداء التي اقترفها المتعصبون الهمج الجهلة على أسس طائفية.
لبنان: بلد قائم على المحاصصة الطائفية، وكلما اهتزت الكراسي تحت أحد الزعماء، لجأ إلى خطاب «الخطر الوجودي» على طائفته، ليحشد الأتباع ويستمر في نهب الدولة.
رواندا 1994: السلطة غذّت الكراهية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي لسنوات عبر الإعلام، حتى وقعت الإبادة الجماعية، حيث قُتل قرابة مليون إنسان خلال 100 يوم، فقط لأنهم من «القبيلة الخطأ»
ألمانيا النازية: هتلر وصل إلى الحكم عبر استثمار جهل الجماهير وتعصبها القومي، فأشعل حرباً عالمية قتلت عشرات الملايين، بينما كان يصوّر نفسه مخلّص الأمة.
العصور الوسطى في أوروبا: الكنيسة والملوك حاربوا التعليم والفكر النقدي، لأن الشعب المتعلم خطر على سلطتهم، أما الشعب الجاهل فكان يطيع دون سؤال، حتى لو أُرسل للحروب الصليبية ليموت في أرض لا يعرفها.
لماذا يكرّس الطغاة الجهل؟ لأن المجتمع الجاهل هو المجتمع الأسهل في السيطرة والانقياد الأعمى. الجاهل لا يعرف حقوقه، فلا يطالب بها. المتعصب مستعد للموت من أجل «قضيته» حتى لو كانت في حقيقتها خدمة لزعيم فاسد قاتل منحط وسافل. لهذا يقتل الطغاة التعليم ويحوّلونه إلى تلقين أجوف، ويخنقون الإعلام الحر ليستبدلوه بآلة بروباغندا، ويستثمرون في تديين السياسة أو تسييس الدين حتى تصبح كل معارضة «كفراً» أو «خيانة».
وهناك رسالة منسوبة للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة موجهة للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حول التعليم والجهل تقول ما يلي: بورقيبة سأله ذات يوم: «لماذا تستثمر أموالك في السلاح ولا تستثمرها في التعليم؟» أجاب القذافي: «أخشى أن يثور الشعب عليّ في يوم من الأيام.» فرد بورقيبة: «يثور عليك شعب مثقّف أفضل من أن يثور عليك شعب جاهل». هذه المقولة تلخص رؤية بورقيبة بضرورة الاستثمار في التعليم والتهذيب والتثقيف الكانطية لا في الجهل والتعصب كحماية للحكم، وفي المقابل، تصور القذافي أن الشعب المتعلم قد يشكّل تهديداً له. وقد رأينا الطريقة التي قضى فيها القذافي على أيدي الليبيين. ولا داعي للشرح.
لا يمكن لشعب أن ينهض أو يبني مستقبلاً وهو مكبل بقيود الجهل وأغلال التعصب؛ سيظل غارقاً في التخلف، يتناحر ويتصارع حتى يفنى. وحدها الدول القوية الواعية قادرة على تحرير شعوبها من هذين الوباءين الذين استثمر بهما القذافي وغيره من طغاة العرب.
وقد شاهدنا على مدار التاريخ الحديث الحقيقة المرة وهي أن الطاغية لا يحكم بمفرده… بل يحكم بجيوش من الجهلاء والمتعصبين الذين يدافعون عنه أكثر مما يدافع هو عن نفسه. هؤلاء هم الوقود الحقيقي لدوام حكمه، وهم السبب في أن بلادنا تتحول لعقود إلى خرائب، بينما يخرج علينا الحاكم ليحدثنا عن «الانتصارات» و»المؤامرات».
إلى الشعوب قبل الطغاة. لن يأتيك الخلاص من فوق. الطاغية لا يحررك، لأنه هو من كبّلك. التحرر يبدأ من عقلك: أن تكسر قيود الجهل، أن ترفض الانجرار خلف أي دعوة للتعصب ومعاداة الآخر المختلف عنك ثقافياً واجتماعياً وطائفياً ومذهبياً ودينياً، وأن تضع مصلحة الوطن فوق مصلحة الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو الحزب أو الزعيم. إذا لم تفعل، فلا تلوم إلا نفسك حين تموت وأنت تقاتل شقيقك ونظيرك في الخلق، بينما أعداؤكم الحقيقيون يشربون نخب انتصار جديد من على عروشهم الدموية في قصورهم الفخمة.
كاتب واعلامي سوري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد