حين يتحول العداء إلى ود: حكاية راوة وعنة

mainThumb

12-08-2025 09:56 AM

يبدو أننا نحن البشر مبرمجون منذ الأزل على التنافس مع الجيران. الغيرة وحب التفوق والرغبة في إثبات الذات، غالباً ما تتوجه أولاً نحو من يسكن إلى جانبنا، وكأن الجار هو المرآة الأقرب التي نقيس عليها قيمتنا وقوتنا. هذه الغريزة لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد إلى المدن والدول وحتى الإمبراطوريات.
في التاريخ القديم، كانت أثينا وإسبارطة مثل شقيقتين جارتين لا يجمعهما سوى العداء، حتى سجّلتا في ذاكرة البشرية واحدة من أطول وأشد الحروب: الحرب البيلوبونيسية. وفي أوروبا الحديثة، يقال إن توحد ألمانيا لم يكن ليتحقق لولا العداء المزمن مع فرنسا، عداء يكاد يكون موروثاً من عصور ما قبل التاريخ. وفي حاضرنا، ما الحرب الروسية الأوكرانية إلا صورة أخرى من صور هذا الصراع بين الجيران، حيث الحدود القريبة لا تمنع اندلاع النيران.
لكن عندما تنزل هذه الغريزة إلى ملعب الرياضة، يتغير المشهد. تصبح المنافسة صاخبة، لكنها بلا خراب؛ حامية، لكنها بلا دماء. في كرة القدم مثلاً، الفوز على الجار له نكهة خاصة، والخسارة أمامه لها مرارة مضاعفة. مباريات برشلونة وريال مدريد ليست مجرد مباراة، بل مسرحية مشحونة بالرموز والتاريخ والهوية، وهذا ما يجعلها الحدث الأكثر ترقباً على مستوى العالم.
في العراق، للتنافس بين الجيران طعم آخر، ربما أدفأ وألطف، حتى وإن شابه شيء من المشاكسة. ومن أجمل أمثلته، بعد كلاسيكو «من الكاظمية هالولد للأعظمية شجابه؟» هناك وشيجة بين مدينتي راوة وعنة، اللتين تتقابلان على ضفتي الفرات العظيم، يتصلان بجسر صغير، وتفصل بينهما مياه عريقة تعرف كل الأسرار. علاقة يغلب عليها الود، لكن لا تخلو من نكهة التحدي، كما أشار الدكتور علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث».
قبل أيام، وصلني فيديو على مجموعة العائلة. مشهد يشبه كرنفالاً شعبياً: رتل طويل من السيارات يزحف في شوارع راوة، أبواق تتعالى، أعلام ترفرف، وجوه حمراء من الحماسة، وأصوات تهتف «الهوسات» نكاية بأبناء عنة، ابتهاجاً بالفوز في لعبة «المحيبس» الشهيرة. كان اندفاعهم يشبه اندفاع الموج حين يلامس الشاطئ لأول مرة بعد عاصفة طويلة.
لو لم أعرف القصة، لظننت أن فريق راوة قد أحرز هدفاً ذهبياً على منتخب البرازيل في نهائي كأس العالم. درجة الاغتباط كانت أقرب إلى الانفجار، والفرحة تسيل من النوافذ والشرفات. المثير أن هذا النصر لم يكن في بطولة دولية ولا حتى محلية، بل في لعبة تراثية، لكنها تحمل في روحها كل معنى الظفر بالمنافس.
تأملت المشهد، وتذكرت تعليق أحد الأصدقاء، قال مازحاً: «عدد الراويين والعانيين في الدنيا أكثر من عدد نفوس المدينتين، بل ربما أكثر من الشعب الصيني! أينما أذهب، أجد راوياً أو عانياً في المستشفيات والجامعات والمحاكم». كان يقصد أن أبناء المدينتين أينما حلوا، تلمع أسماؤهم في مجالات الطب والهندسة والقضاء والتعليم، وكأن التنافس بينهما يرفع الاثنين معاً.
هذا ما أسميه «العداء الإيجابي»، العداء الذي لا يهدم، بل يبني، الذي يشعل الحماسة لا الحروب. تنافس يشبه المبارزة الودية بين أصدقاء قدامى، يعرف كل منهم أن الآخر ليس عدواً، بل مرآة تدفعه لأن يكون أفضل.
إن قصة راوة وعنة ليست مجرد طرفة محلية، بل درس صغير في كيفية تحويل التنافس الفطري إلى قوة مشتركة. حين تتحكم الروح الرياضية في الصراع، يصبح الفوز وسيلة للتقارب، والخسارة فرصة لإعادة المحاولة.
بين الضفتين، على ذلك الجسر الصغير، تمر كل يوم رسائل غير مكتوبة من الود والاعتزاز، حتى وإن غطتها أحياناً عبارات المشاكسة والهتافات الساخرة. فالماء الذي يفصل بين المدينتين هو نفسه الذي يروي نخيلها وبيوتها، والتاريخ الذي جمعهما أطول بكثير من أي لعبة أو مباراة.
في النهاية، يبقى التنافس بين الجيران مثل النار في الموقد، يمكن أن تدفئ البيت إذا أحسنّا إشعالها، ويمكن أن تحرقه إذا تركناها بلا ضوابط. وراوة وعنة، بقصتهما الدافئة والمليئة بالحياة، تقدمان نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه هذا اللهيب حين يضيء ولا يحرق.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد