إسرائيل الكبرى .. استفزاز يصطدم بصلابة الأردن

mainThumb

16-08-2025 07:13 PM

لم تكن تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة بشأن ما يُعرف بـ"رؤية إسرائيل الكبرى" مجرد جملة عابرة في مقابلة إعلامية، بل كانت بمثابة صدمة سياسية وإشارة واضحة إلى طموحات توسعية تتجاوز حدود فلسطين التاريخية، لتلامس عمق السيادة الأردنية. في زمنٍ تعصف فيه المنطقة بالأزمات والصراعات، يطل نتنياهو بخطاب يستحضر أوهامًا جغرافية وأيديولوجية من الماضي، محاولًا أن يضفي عليها شرعية سياسية عبر لغة توراتية وانتقائية في قراءة التاريخ. هذه التصريحات، وإن بدت للبعض دعاية انتخابية موجَّهة لقاعدته اليمينية، تحمل في جوهرها رسائل استراتيجية تمس استقرار الإقليم وتوازناته.

الأردن، الذي خبر عبر تاريخه الحديث موجات الضغط السياسي والتهديدات الإقليمية، لم يتأخر في الرد؛ فجاء موقف وزارة الخارجية حاسمًا ورافضًا، واصفًا ما قاله نتنياهو بأنه "استفزاز خطير" و"تهديد مباشر للسيادة الوطنية". لم يكن هذا الرد مجرد ردة فعل دبلوماسية آنية، بل امتدادًا لثوابت راسخة في السياسة الأردنية، تقوم على حماية الهوية الوطنية ورفض أي محاولة للمساس بالحدود أو إعادة رسم خرائط المنطقة على مقاس الطموحات التوسعية. وبذلك أثبت الأردن، مرة أخرى، أن صلابته السياسية ليست نتاج لحظة، بل حصيلة عقود من المواقف المبدئية التي حافظت على سيادته في وجه مشاريع أكبر وأخطر.

تحمل تصريحات نتنياهو أبعادًا متشابكة؛ فهي، من جهة، انعكاس لرغبة إسرائيلية قديمة في إعادة صياغة حدود النفوذ في المشرق العربي، ومن جهة أخرى، محاولة لتعزيز مكانته في الداخل الإسرائيلي وسط أزمات سياسية خانقة. لكن أخطر ما فيها هو توظيف النصوص الدينية لتبرير مشاريع سياسية توسعية، في وقت يشهد فيه النظام الدولي تراجعًا في الالتزام بالقانون الدولي ومبادئ السيادة. هذا المزج بين العقيدة السياسية والأيديولوجيا التوراتية يجعل من خطاب "إسرائيل الكبرى" تهديدًا طويل الأمد، لا يمكن التعامل معه كمجرد زوبعة إعلامية عابرة.

وأمام هذا التحدي، لا تكمن قوة الأردن في الرفض اللفظي وحده، بل في تحويل هذا الموقف إلى سياسة مدروسة بأدوات تنفيذية واضحة. داخليًا، يحتاج الأردن إلى توظيف مجلس الأمة كمنصة رسمية لإصدار موقف وطني موحَّد يُسجَّل في السجلات البرلمانية الدولية، بما يعزِّز من شرعية الرد الأردني. كما يجب أن تتحرك الحكومة على مستوى مجلس الأمن القومي الأردني لوضع خطة مواجهة طويلة الأمد، تتضمن سيناريوهات سياسية وأمنية لأي خطوات إسرائيلية عملية نحو تنفيذ رؤيتها التوسعية. خارجيًا، على عمّان أن تستثمر شبكة تحالفاتها مع الاتحاد الأوروبي — خاصة الدول التي ما زالت متمسكة بالقانون الدولي وحل الدولتين — للضغط على تل أبيب عبر القنوات التجارية والسياسية، مع تفعيل آلية الشراكة الأوروبية-المتوسطية كورقة ضغط اقتصادية. كذلك، من الضروري إعادة تنشيط لجنة المتابعة العربية لتنسيق موقف موحَّد يتجاوز البيانات إلى خطوات عملية، مثل طلب جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة تحت بند "متحدون من أجل السلام". وعلى المستوى الإقليمي، يمكن للأردن تقوية التعاون الاستخباراتي والعسكري مع مصر والسعودية، في إطار صيغة دفاعية غير معلنة، بما يضمن ردع أي محاولات لفرض واقع جديد على الأرض. إن المزج بين التحرك الدبلوماسي الممنهج، والتحالفات الإقليمية، والجاهزية الدفاعية، هو ما يجعل الرد الأردني أكثر من مجرد رفض، بل سياسة ردع مستمرة تحفظ السيادة في المدى البعيد.

إن فكرة "إسرائيل الكبرى" ليست مجرد طرح سياسي عابر، بل مشروع أيديولوجي يجد من ينعشه كلما سنحت الفرصة. غير أن تاريخ المنطقة، وتجارب الأردن تحديدًا، يثبت أن السيادة الحقيقية لا تُحمى بالشعارات وحدها، بل برؤية استراتيجية تجمع بين الوعي الشعبي، والتحرك الدبلوماسي، والاستعداد الاستراتيجي. لذلك، فإن الاستفزاز الذي أطلقه نتنياهو، مهما بدا صاخبًا، لن يغيّر من حقيقة أن الأردن يقف على أرض صلبة، وأن أي وهم إمبراطوري سيظل يصطدم بجدار من الثبات والإرادة الوطنية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد