الظلم الصامت

mainThumb

15-11-2025 04:19 PM

في الوقت الذي تُنادي فيه المؤسسات بالعدالة المهنية وتكافؤ الفرص واعتبار الأداء هو المعيار الأول للتقييم، تظهر على أرض الواقع ممارسات دقيقة لكنها بالغة التأثير تقوّض هذه المبادئ من الداخل، من بين هذه الممارسات ما يمكن تسميته بـ "الظلم الصامت"، ذلك النوع من الإقصاء الذي لا يُعلن ولا يُواجه لكنه قادر على هدم علاقة مهنية كاملة قبل أن تبدأ.
يحدث ذلك حين يدخل مدير جديد إلى المؤسسة وهو محمّل بصورة مسبقة عن أحد الموظفين، صورة لا تستند إلى تجربة شخصية أو تقييم موضوعي بل إلى روايات منقولة تُنسج حوله كأنها الحقيقة المطلقة، هكذا تتحول الأحكام الجاهزة إلى قوة قادرة على إلغاء حقائق سنوات طويلة من العمل والإنجاز، وتُقيم بين المدير والموظف مسافة غير عادلة قبل أن يولد أي تواصل مهني حقيقي.
الانطباع المتحيّز لا يكتفي بالتأثير على الرؤية، بل يصنع نمطًا من التعامل الصامت، فلا مصارحة، ولا حوار، ولا فرصة للموظف كي يعرّف بنفسه، يتراجع دوره تدريجيًا، تُسحَب منه مهام مارسها بكفاءة، وتُرسل إليه رسائل غير منطوقة مفادها "مكانك لم يعد مكانك."
وهنا يبدأ التحول الأعمق، انسحاب الموظف من ذاته قبل أن ينسحب من عمله، فحين يُلغى صوت الإنسان ويُختزل جهده في انطباع لم يصنعه، تخبو المبادرة ويفتر التفاعل ويبهت الشغف، يغدو المكان الذي كان يومًا بيته المهني مساحة من الغربة، وكما قال كونفوشيوس "لا تَحكم على إنسان حتى تسمع منه لا عنه".
يزداد المشهد قسوة حين يُعاد تشكيل الفريق وفق منطق القرب الصوتي لا الكفاءة، وعندما يُمنح النفوذ لمن يجيدون الظهور لا لمن يجيدون العمل، هنا يختل التوازن ويشعر الموظف وكأنه يقف على أرض تميد به رغم أنه لم يرتكب خطأ واحدًا، ومع تغيّر ديناميات الفريق تنشأ عزلة داخل الجماعة نفسها، عزلة لا تصنعها نظرات الزملاء بل طريقة الإدارة التي جعلت وجود الموظف خارج الإيقاع العام للمكان.
وبرغم ذلك يظل الموظف قادرًا على العطاء، إلا أن المساحة العادلة للعطاء لم تعد موجودة، يتشكّل داخله إرهاق جديد، إرهاق يصنعه التناقض بين ما يستطيع تقديمه وبين شعوره بأن هذا الجهد لم يعد مُحتضنًا، وهكذا يصبح قرار الرحيل احتمالًا واقعيًا، بعدما كان مستبعدًا تمامًا، فكما قال غاندي "المعاملة العادلة هي أعظم أشكال القوة".
من منظور تربوي–قيادي، فإن ما يحدث هنا ليس خلافًا بسيطًا بل خللًا بنيويًا في القيادة، المدير الذي يسمح للأحكام المسبقة أن توجه علاقاته يفقد القدرة على رؤية الإنسان كما هو، والتهميش الصامت يهدم الثقة، والاعتماد على الناقلين بدل المنجزين يشوّه المناخ المهني، والأخطر أن الثقافة التي تُجبر الموظف على إعادة إثبات ذاته مع كل تغيير إداري هي ثقافة مُنهِكة تُحوّل الإنجاز إلى اختبار دائم لا ينتهي، وقد لخّص بيتر دراكر جوهر القيادة بقوله "وظيفة القائد أن يبني مناخًا يُمكّن الناس من النجاح، لا مناخًا يستنزف طاقاتهم".
إن خسارة مؤسسة لموظف مخلص ليست مجرد حركة إدارية، بل خسارة إنسانية ومهنية تُفقدها أحد أعمدتها الصامتة، فالموظفون الذين يرحلون بسبب التهميش لا يفعلون ذلك لعدم قدرتهم على العطاء، بل لأن شعورهم بالانتماء قد كُسر والشغف الذي كانوا يحملونه قد خمد تحت وطأة الظلم غير المعلن.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا أمام كل مؤسسة:
هل نبني بيئة ترى الإنسان بإنجازه الحقيقي، أم بيئة تحكم عليه بما يُقال عنه؟
وما بين الإجابة الأولى والثانية… تُصنع الفوارق الكبرى في جودة القيادة ومستقبل المؤسسات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد