آن الأوان لوضع الاقتصاد الإسلامي في قلب القرار السيادي

mainThumb

15-11-2025 11:22 PM

في قاعات صنع القرار الأردني، تتردد أصداء الأرقام الرسمية التي تتحدث عن نمو اقتصادي واستقرار مالي، بينما في الشوارع والأحياء، تحكي القصص واقعاً مختلفاً تماماً.

إنها معضلة الأردن الكبرى: اقتصاد بمؤشرات كلية تبدو مشرقة، وواقع معيشي يئن تحت وطأة الغلاء والبطالة وتردي الخدمات, هذه المفارقة ليست مجرد أزمة عابرة، بل هي أزمة هيكلية في نموذج اقتصادي أثبت عجزه حتى اللحظة عن تحقيق العدالة والرفاهية للمواطن الأردني، ويئن تحت وطأة مديونية سيادية قاتلة.

تشير أحدث البيانات الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة إلى تفاقم هذه الأزمة الهيكلية، حيث ارتفع العجز في الميزان التجاري إلى نحو 6.45 مليارات دينار أردني خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2025، بزيادة مقدارها 217 مليون دينار مقارنة بالعام السابق.

هذه الأرقام لا تعكس مجرد مؤشر اقتصادي سلبي، بل تكشف عن اختلال عميق في البنية الاقتصادية يحتاج إلى علاج جذري, فعلى الرغم من ارتفاع قيمة الصادرات الوطنية بنسبة 8%، وزيادة قيمة المعاد تصديره بنسبة 4.8%، إلا أن هذه المؤشرات الإيجابية لم تمنع اتساع رقعة العجز التجاري، مما يؤكد أن الاقتصاد الأردني يعاني من إشكالية هيكلية تتجاوز الأرقام السطحية لتصل إلى جوهر النموذج الاقتصادي القائم.

تكشف البيانات الرسمية الأخرى عن نمو اقتصادي متوقع بنسبة 2.7%، لكنها تخفي وراءها واقعاً مريراً من البطالة التي تصل إلى 22.8% بين الشباب وفقاً لدائرة الإحصاءات العامة , كما تشير بيانات البنك المركزي الأردني إلى تراجع القوة الشرائية للمواطن، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 2.1% خلال عام 2023، مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 3.8% وأسعار النقل بنسبة 4.2%. أما حصة الأجور من الناتج المحلي فقد تراجعت إلى 35.2% وفقاً لوزارة العمل الأردنية من خلال التقارير الإعلامية المختلفة لوسائل الاعلام الأردنية ، بعد أن كانت 38.5% في عام 2010.


هذه الأرقام تكشف عن اقتصاد منقسم: اقتصاد كلي يعتمد على تحويلات المغتربين والمساعدات الخارجية، واقتصاد جزئي حقيقي يعاني من الاختناق والتردي.


يكمن جوهر المشكلة في ثلاث معضلات هيكلية أساسية, أولاً: نظام تمويلي قائم على الفائدة يجعل رأس المال حكراً على كبار المستثمرين ويصعب وصوله إلى المشاريع الصغيرة والمتوسطة. ثانياً: آليات توزيع عاجزة عن تحقيق العدالة الاجتماعية، مما يؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي قلة وتهميش الغالبية العظمى من المجتمع. ثالثاً: حوكمة اقتصادية تفتقر إلى الشفافية والمحاسبة، مما يفتح الباب أمام هدر الموارد وعدم كفاءة الأداء.

وفي إطار الاستراتيجيات الاقتصادية الأردنية الرسمية، نجد أنها تظل حبيسة النظريات الليبرالية التقليدية التي أثبتت محدوديتها في معالجة القضايا الهيكلية, فبالرغم من الحديث المتكرر عن تحقيق نمو شامل، نجد أن الأدوات المعتمدة لا تخرج عن إطار السياسات النقدية التقليدية، وتحفيز الاستثمار الأجنبي، وبرامج الخصخصة، دون معالجة حقيقية لجذور الأزمة.


وإذا أمعنا النظر في النظام الضريبي الأردني، نجد أنه يعاني من إشكاليات بنيوية عميقة تزيد الأزمة تعقيداً, فالنظام الحالي يعتمد بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة المبيعات التي تشكل ما يزيد عن 60% من الإيرادات الضريبية، مما يرفع تكلفة المعيشة ويؤثر سلباً على القوة الشرائية للمواطن.

وفي النظام الاقتصادي التقليدي السائد في الأردن، تتحرك الثروة بشكل رئيسي من الأسفل إلى الأعلى، حيث تتركز الموارد في أيدي فئة قليلة على حساب الأغلبية, يتم ذلك من خلال آليات متعددة، أبرزها نظام الفائدة الذي يستنزف موارد المنتجين الصغار، والضرائب غير المباشرة التي تثقل كاهل محدودي الدخل، وغياب آليات فعالة لإعادة توزيع الثروة.

هنا يبرز الاقتصاد الإسلامي ليس كخيار ديني فحسب، بل كحل عملي جذري وشامل, فبينما يعتمد النظام الاقتصادي الحالي على الفائدة التي تستنزف موارد المنتجين وتزيد من تكاليف الإنتاج، يقترح الاقتصاد الإسلامي نموذج التمويل التشاركي القائم على المشاركة في الربح والخسارة كواجد من أدواته العامة المتعددة , هذا النموذج يمكن أن يحدث ثورة في تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ويحول آلاف الشباب من باحثين عن عمل إلى أصحاب مشاريع منتجين.

وفي مجال التوزيع العادل، يقدم نظام الزكاة المؤسسي على سبيل المثال بمفهومه الواسع حلاً فريداً لمشكلة الفقر والتفاوت الاجتماعي، حيث يختلف جذرياً عن الضريبة التقليدية, فالزكاة لا تُفرض على رأس المال العامل والمعد للاستثمار، بل على الأموال المدخرة والتي تجاوزت النصاب وحال عليها الحول , هذا التمييز الدقيق يشجع على تدوير الأموال في الاقتصاد الحقيقي بدلاً من كنزها.

أما في النظام الإسلامي، فإن آلية تدفق الثروة تنعكس تماماً، لتتحرك من الأعلى إلى الأسفل من خلال أدوات مؤسسية راسخة, فالزكاة كما أسلفنا بمفهومها الواسع ليست مجرد ضريبة، بل هي نظام متكامل لإعادة توزيع الثروة , ويتميز النظام الإسلامي بأنه يفرق بين الثروة المنتجة والثروة المدخرة، فيعفى رأس المال العامل والمعد للاستثمار من الزكاة، بينما تُفرض على الأموال المعطلة عن العملية الإنتاجية.

كما أن نظام الوقف في الاقتصاد الإسلامي يشكل أداة فريدة لتدفق الثروة، حيث يحول الأصول المنتجة إلى ملكية اجتماعية تخدم الأجيال المتعاقبة, . ويضاف إلى ذلك نظام الميراث في الإسلام الذي يضمن تفتيت الثروات الكبيرة وتوزيعها على عدد كبير من الورثة، مما يمنع تركيز الثروة في أيدي قلة عبر الأجيال.

وخلافاً للاعتقاد الشائع، فإن التحول إلى النظام الاقتصادي الإسلامي في الأردن لن يصطدم بالنظام الاقتصادي العالمي، بل سيعزز موقع الأردن في الخريطة الاقتصادية الدولية. فالصيرفة الإسلامية أصبحت واقعاً عالمياً، حيث تنتشر في أكثر من 80 دولة، وتشهد نمواً سنوياً يتجاوز 15%.

دول مثل ماليزيا والإمارات وتركيا وإندونيسيا أثبتت أن التمويل الإسلامي يمكن أن يتعايش ويتكامل مع النظام المالي العالمي.

الأردن يمكن أن يستفيد من موقعه كجسر بين العالم الإسلامي والأسواق العالمية , بدلاً من أن يكون تابعاً، يمكن أن يصبح مركزاً إقليمياً للتمويل الإسلامي، يجتذب الاستثمارات من دول الخليج والعالم الإسلامي، ويوفر قنوات استثمارية تتوافق مع الشريعة الإسلامية.

العالم اليوم يتجه نحو التمويل الأخلاقي والاستثمار المسؤول، وهذا يتوافق مع مبادئ الاقتصاد الإسلامي, . فالشروط البيئية والاجتماعية والحوكمة التي تفرضها الأسواق العالمية تتماشى مع فلسفة الاقتصاد الإسلامي في تحريم الإضرار بالبيئة والعدالة الاجتماعية.

عند تطبيق نظام الزكاة بشكل صحيح ضمن مفهومه الموسّع ، يمكن لصندوق وطني للزكاة أن يجمع مئات الملايين من الدنانير سنوياً، توجّه لدعم الفقراء وتمويل برامج التدريب والتأهيل، وتحويل الأسر المستفيدة من مستهلكين إلى منتجين , كما أن نظام الوقف الإسلامي يوفر آلية مستدامة لتمويل الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، مما يخفف العبء عن كاهل الدولة والمواطنين معاً.

أما في مجال الحوكمة، فيقدم نظام الحسبة الإسلامي آليات رقابية متكاملة تبدأ من الرقابة الذاتية وتنتهي بالرقابة المؤسسية، مما يضمن الشفافية والنزاهة في التعاملات الاقتصادية.

هذه الآليات المتكاملة في الاقتصاد الإسلامي تخلق دورة اقتصادية مغايرة تماماً للنظام التقليدي. فبينما يزيد النظام الحالي من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، يعمل النظام الإسلامي على تقليص هذه الفجوة من خلال تحويل جزء من فائض القيمة من القمة إلى القاعدة.

التجارب الدولية تثبت جدوى هذا النهج , ففي ماليزيا، ساهم التمويل الإسلامي في خفض معدل الفقر من 50% إلى 5%، وفي إندونيسيا وفرت الصكوك الإسلامية تمويلاً ضخماً لمشاريع البنية التحتية بلغ 25 مليار دولار. هذه النماذج الناجحة تشكل دليلاً عملياً على إمكانية تطبيق هذا النهج في الأردن.

الطريق إلى التحول يبدأ بإصلاح تشريعي يفتح المجال للتمويل الإسلامي بمعناه الاوسع وليس الضّيق كما هو مشاهد اليوم ، وتأهيل الكوادر في المجال الاقتصادي الإسلامي , ثم الانتقال تدريجياً ضمن تحوّل متدرج من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الإسلامي ، برافقه إصدار صكوك إسلامية لتمويل مشاريع التنمية.

حيث يمكن للأردن أن يبدأ بالتحول التدريجي، من خلال إنشاء منطقة اقتصادية خاصة للتمويل الإسلامي، وتطوير تشريعات تسمح بالتعامل المزدوج، وبناء شراكات استراتيجية مع المراكز المالية الإسلامية العالمية.

رغم التحديات التشريعية والثقافية التي قد تواجه هذا التحول، إلا أن الأردن يمتلك مقومات النجاح من كفاءات مالية متميزة، وموقع استراتيجي، وتجربة سابقة في العمل المصرفي الإسلامي, التحول إلى الاقتصاد الإسلامي يعني تحقيق عدالة في التوزيع، وشفافية في الإدارة، وإنتاجية في الأداء، واستقراراً في الاقتصاد الكلي والجزئي للأردن مما يعني انعكاس على المواطن بشكل ملحوظ .

لذلك، فإن التحول إلى النظام الاقتصادي الإسلامي لا يعني مجرد استبدال أدوات مالية بأخرى، بل يعني تغيير جذري في فلسفة تداول الثروة وتوزيعها، من نموذج يزيد الغني غنى والفقير فقراً، إلى نموذج يحقق العدالة والكرامة للجميع.

إنها الفرصة التاريخية للأردن ليعبر من اقتصاد الأرقام المزيفة إلى اقتصاد الرفاهية الحقيقية، من اقتصاد النخبة إلى اقتصاد الشعب، من اقتصاد الاستهلاك إلى اقتصاد الإنتاج.

المستقبل يبدأ اليوم بخطوات جادة نحو اقتصاد يحقق الكرامة والعدالة لكل مواطن، اقتصاد يجمع بين الكفاءة والإنسانية، بين النمو والاستدامة، بين الربح والقيم., لقد آن الأوان لاقتصاد يخدم الإنسان، لا اقتصاد يُذل الإنسان , آن الأوان لاقتصاد تتكامل فيه المؤشرات الكلية مع الواقع الجزئي , آن الأوان للاقتصاد الإسلامي.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد