حين يولد الصمت مسرحُ الوجود

mainThumb

27-08-2025 12:20 AM

نضال الخليل


بين الحياة والقدر والإرادة
أحيانًا يدعونا المسرح لنسبر أغوار الأسئلة التي طواها الزمن فنلمس حدوداً بين الصرخة والصمت بين الحضور والغياب.
«الرباط الأزلي» لميسون حنا يعيد تشكيل هذه الحدود ويقودنا إلى جزيرةٍ مخمليةٍ صامتة تحتضن جدلية الحياة والقدر والإرادة.
1. الكتابة كطقسٍ للذاكرة
نبدأ مع المؤلفة في الصف الحادي عشر حيث ولدت بذرة الصراع في ذهنها الشابّ الكتابة هناك لم تكن تخطيطًا لإنتاج مسرحيّ بل نزوعٌ أولي إلى تسجيل نبضٍ داخلي لم يفُرّه الحي الذي ولدت فيه ثم انتقلت إلى أوكرانيا فوجدت اللغة الثقافية طقسًا جديدًا للكتابة:
غربةٌ تقتضي الحفر في جذورٍ لا تُرى فتُولد النصوصُ أكثر وأقل هجرةً في آنٍ معًا.
عند عودتها لم تعد القصيدة المسرحية التي بدأت بها بل لوحةٌ ذهنيةٌ أقرب إلى الحلم الساطع والصدى الخافت.
2. الشخصيات كأنها ألوانٌ في لوحةٍ بدائية
● الحياة وكأنها لونٌ أساسيّ لا يحتمل التلوّث يبرز في وسط المشهد القديم يطالب بحقّ الظهور رغم الجروح.
● القدر يبدو كلونٍ ثقيلٍ يثقل على السطح لا يشطب الحياة لكنه يرسم لها حدوداً بلونٍ لا يمحى.
● الإرادة لونٌ متمرد يتخطى الحفر القديم يلتهم النصف الخافت في الرسم لينبش فيه ما يشبه المستقبل.
حين تتمازج هذه الألوان على خشبةٍ خالية نرى الصراعَ ينبثقُ كلوحةٍ تشكيليةٍ لا تنتهي من الرسم ولحظة اختراق الإرادة تأتي كالفرشاة المجنحة التي تنثر نقاطًا من الضوء.
3. الرحلة من الصمت إلى الصرخة ثم الصمت من جديد
ينقسم النص إلى ثلاثة فصول ليس كأقسامٍ رتيبة بل كتوقيعِ صرخةٍ لكل محطة:
● الفصل الأول: مشهدٌ واحد تتجاهله الأجهزة الديكورية لتضعنا في مواجهةٍ محفزةٍ للقارئ/المتلقي في تلك الدقائق لا نحتاج إلا إلى صمتٍ مستنطقٍ للكلام.
● الفصل الثاني: يظهر قطب الإرادة فجأةً فيربك التوازن ويطلق عاصفةً من الأسئلة كيف تكون الحريةُ رغبةً تخطّت شروط الموروث؟
● الفصل الثالث: ثلاث مشاهدٍ توثّب في عوالمٍ خاصة:
1. الصرخة المترددة: تبدأ بغفوةٍ متقطعةٍ ثم تنفجر ككراهيةٍ لما هو مألوف.
2. احتفال العناصر: النار والماء والريح كلٌ منها يهمس بقصته ينشد سؤالًا عن أصل الوجود.
3. الخاتمة المفتوحة: نولد معًا... لا نرحل - كأن النصَّ يمنحُنا فرصةً لإعادة الكتابة في كل ولادةٍ جديدة.
4. ثيماتٌ متناغمةٌ في خلفية الصمت
الثيمة
تأملاتٌ موسيقية

الصراع والتكامل
الحياة لا تقف إلا بحضور القدر والإرادة كأنها سيمفونيةٌ لا تتوقف إلا بنبرة الصمت

السؤال والجواب
الإرادة تطرح السؤال والقدر يجيب بالصمت المؤلم والحياة تدوس على الجواب بحركةٍ جديدة

الذاكرة والاغتراب
النص يحفر في ذاكرةٍ مجهولة فتظهر التشويهات والفجوات كفصولٍ من كتابٍ لم يُسجّل بعد.

الصمت ككلمةٍ سابعة
الصمت هنا ليس فراغًا بل جملةٌ لم تُلفظ تُرنم في الأذن بعد انقضاء المسرح.


5. لغةٌ محمولةٌ على موسيقى الحروف
يتجنب النص الإطناب الشعري الزائد إلا حيث يلزم لالتقاط وهجٍ وجودي تستخدم الشخصيات عباراتٍ قصيرة كأن كل كلمةٍ تروم أن تحفر بصمةً في الفضاء الصوتي ثم يأتي الصمت ليأخذ دوره بين السطور فالخلوة الصوتية تُثري العقل بمساحةٍ للتخيّل.
6. تأملٌ في لجة الوعي الصامت
هذه المسرحية ليست دعوةً للتلقي السلبي بل استدعاءٌ لحضورٍ نشط:
يتمثّل القارئ/المتلقي نفسه في قلب مشهدٍ لا ينتهي.
هناك لا تُعرض الجسدانية بل يتبدّى الفكر في أقصى درجة من التعبير إنها تجربةٌ تُزْهِرُ حينما نرفض أن نصبح مجرد متفرجين.

قد تسأل:
كيف يمكن للكتابة أن تكون صرخةً على خشبةٍ لا تُرى؟
وهذا هو الاختلاف : الفعل المسرحي هنا كتابةٌ والكتابة فعلٌ مسرحي.
«الرباط الأزلي» يعيد صياغة الخشبة والصفحة ويذكرُنا بأنّ الارتباط الأبدي بين الأسئلة والإجابات لا يتم إلا حين نسمح للغة بأن تقودنا إلى ما وراء الصرخة والصمت.




تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد