شباب السودان يُحْيي ذكرى الثورة في زمن الموت

شباب السودان يُحْيي ذكرى الثورة في زمن الموت

22-12-2025 02:08 AM

رغم الحرب وأجواء القسوة العمياء، خرج شباب السودان لإحياء الذكرى السابعة لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.
لم يكن خروجهم مجرد احتفاء بالذكرى، وإنما فعل مقاومة وجودي، فهو ليس مجرد استذكار للماضي، وإنما تأكيد على استمرارية المشروع الثوري رغم محاولات دفنه تحت ركام الصراع المسلح.
والشباب الذين خرجوا بالأمس في ذكرى الثورة، يهتفون بشعاراتها، ويحملون صور شهدائها وأَعلام السودان، هم في الحقيقة يمارسون أعلى درجات التحدي لكل منطق الحرب الذي يسعى إلى إخضاع الإرادة الشعبية. إنهم يرسلون رسالة واضحة بأن الحرب، مهما بلغت ضراوتها، لم تقتل حلم التغيير، وأنّ الشعلة التي أوقدتها ثورة ديسمبر، ما زالت متقدة في قلوب جيلها الذي يرفض أن تُسرق أحلامه مرة أخرى. وفي زمن مشبع بالتضليل الإعلامي والتلاعب بالرواية، ويسيطر فيه الخطاب العسكري والأمني، فإن خروج الشباب يعيد الاعتبار للخطاب السياسي المدني السلمي، ويذّكر الجميع بأن الحلول العسكرية هي جزءٌ من المشكلة وليست حلاً لها، وأن الرواية الحقيقية هي رواية الشعب وليست روايات البنادق.
خرجت مسيرات الشباب في عدة مدن تأكيداً لحقيقة أن الوحدة الوطنية في وجه سياسات التفتيت هي هدف رئيسي من أهداف ثورة ديسمبر، وأن الهم الوطني يوحد السودانيين عبر الجغرافيا والانتماءات الضيقة، وأن مطالب الثورة في الحرية والسلام والعدالة هي قواسم مشتركة لكل السودان.
وخروج الشباب إلى الشوارع في زمن الموت احتفاءً بذكرى ثورة ديسمبر العظيمة، يرسل رسائل إلى عدة جهات لعلهم يتفكرون. رسالة إلى مُشعلي الحرب وأنصارها ودعاة إستمرارها، تقول لهم أنتم لا تمثلوننا، وحربكم ليست حربنا، توقفوا عن احتكار القرار الوطني والعبث بمصير الشعب.
ومغذى الرسالة هو نزع الشرعية عن الحرب ورفض أن يكون الشعب رهينة في صراع النخب على السلطة. ورسالة أخرى إلى القوى السياسية والمدنية السودانية، تدعوهم إلى الإنصات إلى صوت الحقيقة، فيعترفون بأخطاءهم، ويصدقون في مراجعة نقدية جريئة لأدائهم خلال الفترة الانتقالية.
هذه المراجعة ليست ترفاً فكرياً، بل شرط ضروري لاستعادة المصداقية لدى الجماهير التي ظلّت تشعر بالخذلان، ولاستعادة الثقة المفقودة بين النخب والجماهير، والتي لا يمكن أن تتحقق بخطابات بلاغية، ولا بتدبيج وتوقيع إعلان وراء إعلان، بل بممارسة سياسية مختلفة، سياسة الخدمة لا الزعامة، سياسة البذل لا الاقتطاع، وأن تُثبت أنها جيل المسؤولية، لا جيل الفرص الضائعة، وتتبنى الخيار الصحيح من بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن تنتفض لمسؤوليتها التاريخية وتستعيد زمام المبادرة، فتتوحد وتمتنع عن الانشغال بالصراع على النفوذ، وتركز على بناء أوسع جبهة ضد الحرب ومن أجل استعادة ثورة ديسمبر دون أي تنازل عن مبادئها، وأن ترفض وتقاوم كل أشكال التسويات، والتي لن تفلح إلا في إعادة انتاج الازمة، أو أن تستمر في انقساماتها وترددها، ويستمر فعلها مجرد ردود فعل على حركة العسكر، فتكون شريكة في الجريمة ضد مستقبل البلاد، وتُطوى صفحتها من ذاكرة الشعب. خرج الشباب إلى الشوارع في ذكرى الثورة، لا ليحتفوا فقط، بل ليقولوا «نحن هنا، ونحن صامدون»، فهل تستطيع النخب أن تكون عند مستوى هذه الرسالة، أم ستخونها مرة أخرى؟
والشباب أرسلوا رسالتهم الثالثة إلى المجتمع الدولي والأطراف الإقليمية يحذرونهم من التعامل مع السودان كمجرد ساحة لصراعات المصالح، أو لإبرام الصفقات، وأن يوقفوا تمويل ودعم الحرب، وأن ينظروا إلى الشعب السوداني كبشر لهم كل الحق في العيش الكريم وفي تقرير مصيرهم. ولعل المغذى الواضح من هذه الرسالة هو فضح التواطؤ الخارجي مع أطراف الصراع، ودعوة المجتمع الدولي إلى الوقوف مع الإرادة الشعبية وليس مع الأجندات الضيقة. أما الرسالة الأخيرة، فوجهها الشباب لأنفسهم وللشعب السوداني بأن لا تستسلموا للخوف أو اليأس، وتذكّروا دائماً أن قوتكم في وحدتكم، وأنكم لازلتم قادرين على تشكيل المستقبل. إنها رسالة لتجديد الطاقة الثورية ولشحذ الهمة ورفع المعنويات في لحظة تاريخية تشهد إحباطاً واسعاً، وللتذكير بأن التغيير يبدأ بعدم القبول بالواقع المُر، وهي أيضاً رسالة للتاريخ وللأجيال القادمة، بأن قاوموا ولا تستسلموا، بل حافظوا على الجذوة حيّة لينهض من بعدنا من يكمل المسيرة.
ومواكب الاحتفاء بذكرى ثورة ديسمبر في زمن الموت والحريق والتخوين، لها رمزية عميقة تتمثل في أنّ هذه المواكب في جوهرها، هي استعادة وتملُّك الفضاء العام الذي حاولت الحرب مصادرته وتحويله إلى ساحات قتال أو مناطق خاضعة للخوف. كل هتاف للحرية، كل لافتة ترفع، كل تجمع سلمي، هو استعادة للسيادة الشعبية على الجغرافيا والزمن.
إنها أيضاً احتفاء بالحياة في مواجهة ثقافة الموت التي تروجها الحرب، فبينما تعمل آلة الحرب على تحويل الإنسان إلى مجرد رقم، أو ضحية، أو نازح أو لاجئ، يؤكد الشباب عبر مواكبهم على إنسانيتهم، على حقهم في الفرح، في الحلم، في الاحتفاء بذكرى تستحضر أجمل ما في روح الشعب السوداني، القدرة على المقاومة بالفرح، والأمل في أحلك اللحظات.
والاحتفاء بذكرى الثورة في ظل هدير إنفجارات القنابل وسفك الدماء وحريق الأخضر واليابس، هو تأكيد على حقيقة ثورية عميقة تقول إن الأفكار لا تموت بالرصاص، وإن الأحلام لا تُدفن تحت الدبابات، وإن ثورة ديسمبر بذرةٌ غرسها الشعب السوداني في تربته الوطنية، وسقاها الشهداء بدمائهم المقدسة، ويسقيها الشبابُ اليوم بدمائهم الحية، بإرادتهم وإيمانهم الراسخ بأن الغدَ الأفضلَ آتٍ.
وهكذا، خرج الشباب إلى شوارع الحرب في ذكرى الثورة، وهتافهم يخاطب الجميع برسالة مركزية واحدة، فحواها أن السودان يساوي أكثر من حرب، وشعبه يستحق أكثر من أن يكون وقوداً لصراعات الآخرين. وأن في صمود الشعب السوداني ووحدة كافة قطاعاته وشرائحه الرافضة للحرب، يكمن الأمل الوحيد لكسر حلقة العنف، وبناء مستقبل لا تُسرق فيه أحلام الثورة مرة أخرى.

كاتب سوداني



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد