دماءٌ في غزة وتحقيرٌ في بيروت

mainThumb

28-08-2025 11:46 PM

قد يبدو أن لا رابط بين جريمة دمٍ في غزة بحجم الكوكب، وبين عبارة قيلت في بيروت بحجم تحقير كامل المواصفات. لكن الحقيقة أن الرابط قائم وواضح. ما قاله باراك هو التعبير «المُنمق» عن الذهنية نفسها التي تُشرعن قصف الصحافيين الفلسطينيين. إهانة بالكلمة هنا، واغتيال بالرصاص هناك. في الحالتين، الرسالة واحدة: أنتم أقل، أنتم دون، أنتم لا تستحقون الاحترام ولستم جديرين بالحياة.
إذا كانت كلمات باراك تعبيراً عن عنف رمزي، فإن ما فعلته إسرائيل في غزة هو الوجه الأكثر دمويةً للمنطق نفسه: اغتيال خمسة صحافيين فلسطينيين يعملون مع مؤسسات إعلامية دولية، ليس مجرد «حادث عرضي» في سياق حرب، بل هو رسالة سياسية وأخلاقية: هؤلاء لا قيمة لهم، لا كصحافيين ولا كبشر، وعليه لم نشهد موجة استنكار دولية بحجم الفاجعة، وكالعادة لم تتحرك الحكومات الغربية، كما تفعل حين يتعرض صحافي غربي للأذى.
حين يُقتل صحافي غربي في أي صراع، نرى غضباً عالمياً وتحقيقات عاجلة وبيانات شديدة اللهجة. أما حين يُقتل الصحافيون الفلسطينيون، فإن الرد يراوح بين الصمت والتبرير. يقال إنهم كانوا «في مكان خطير»، أو يُلمّح إلى أنهم «مقرّبون من فصائل»، أو يُختصر خبر موتهم في جملة هامشية في وسائل الإعلام الدولية.
هذه الازدواجية ليست صدفة. إنها تعكس «سُلّم أولويات» عنصري في نظر الغرب: حياة الصحافي الأبيض أهم، كلمته أثمن، دمه أثقل. أما الصحافي الشرقي، وخصوصاً الفلسطيني، فهو كائن فائض، يمكن التخلص منه من دون تكلفة سياسية تُذكر.

الجذور الأيديولوجية: عنصرية بثوب ليبرالي

من الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي، حيث كان الصحافي المحلي يُعامل كمتعاون من الدرجة الثانية، إلى حرب العراق، حيث قُتل عشرات الإعلاميين العراقيين من دون تحقيق جدي، نرى استمراراً لنمط واحد: الصحافي غير الغربي ليس محمياً بالقيم الغربية نفسها التي يتغنى بها الخطاب الليبرالي.
ما يجعل هذه الممارسات متواصلة ليس فقط مصالح السياسة، بل بنية ثقافية كاملة. في الثقافة الغربية السائدة، ثمة خيط ناظم يجمع بين عنصرية دفينة وتطرف أيديولوجي يتخفى خلف شعارات الحرية وحقوق الإنسان. الإعلام الغربي، مثلاً، يفاخر بحماية الصحافة والاستقلالية، لكنه يتردد حين يتعلق الأمر بالشرق. الدفاع عن حرية الصحافة يصبح انتقائياً، مشروطاً، موجهاً.
هذا التناقض يعود إلى إرث الاستشراق الذي ما زال يلوّن النظرة الغربية إلى الشرق. فحتى حين تُقدَّم شعارات المساواة، يبقى الشرقي محاصراً بتصورات نمطية: أنه «غير عقلاني»، أو «متطرف»، أو «غير مؤهل لممارسة الديمقراطية». هذه التصورات لا تتبخر بسهولة، بل تترسخ في مؤسسات السياسة والإعلام والتعليم، وتظهر فجأة في عبارة هنا أو رصاصة هناك.

من الرصاص إلى الكلمات: ازدواجية المعايير في دم الصحافيين

لذلك، لم يكن ما جرى في بيروت أمام شاشات التلفزيون مجرّد زلة لسان في مؤتمر صحافي، بل كان مشهداً مكثفاً يلخّص قروناً من الاستعلاء الغربي على الشرق. وقف توم باراك، مبعوث الرئيس الأمريكي وسمسار العقارات، أمام حشد من الصحافيين اللبنانيين، وحين واجهوه بأسئلة ضاغطة لم ترق له، لم يجد ما يقوله سوى أن يصف سلوكهم بـ»الحيواني»، وغير المتحضر. العبارة التي خرجت منه ربما بعفوية وبرود أشعلت عاصفة من النقاشات والجدل. البعض رآها إهانة فردية من رجل عديم الخلفية الدبلوماسية، والبعض الآخر عدّها دليلاً جديداً على عقلية استعمارية متأصلة ترى في شعوب المنطقة مجرد رعايا متوحشين لا يستحقون الاحترام.

فهل من رابط بين واقعة بيروت واغتيال غزة؟

الرابط ليس إلاّ «النظرة البيضاء»، تلك العدسة الأيديولوجية التي ترى الشرق دائماً من موقع الدونية. إن إهانة الصحافيين في بيروت واغتيال الصحافيين في غزة وجهان لعملة واحدة: ثقافة غربية متجذرة تعتبر أن حياة وأصوات الشرقيين أقل قيمة.
لغة الاحتقار: الاستشراق في ثوبه العصري
حين وصف باراك الصحافيين اللبنانيين بـ»الحيوانيين»، لم يكن يستخدم كلمة عابرة. الكلمة نفسها تنتمي إلى معجم طويل من الصفات التي ألصقها الغرب بالشرق منذ قرون: الفوضى، الانفعال، الغريزية، العجز عن التحضر. إدوارد سعيد، في كتابه الكلاسيكي «الاستشراق»، كشف منذ عقود كيف أن الغرب لم يرَ في الشرق سوى مرآة يعكس عليها صورته المتفوقة. الشرق، في المخيال الغربي، هو الآخر النقيض، المتخلف والمختلف جوهرياً، الذي يحتاج دائماً إلى إدارة وتوجيه وضبط.
في هذا السياق، تصبح اللغة سلاحاً. حين يصف مسؤول غربي الصحافيين اللبنانيين بـ»الحيوانية»، فهو لا يكتفي بإهانة أشخاص بعينهم، بل يستدعي تاريخاً طويلاً من التراتب العرقي والثقافي. إنه يعيد إنتاج تلك الثنائية المريحة للذهنية الغربية: نحن المتحضرون، وأنتم البرابرة. وهذه الثنائية ليست بريئة. لأنها شرعنت الحملات الاستعمارية، وسمحت بقتل الملايين، وأتاحت للغرب أن ينهب بلادنا ويحتلها باسم «تمدين المتوحشين».
ولعل الأخطر أن مثل هذه الممارسات تجد دائماً من يبررها بين النخب العربيّة نفسها. إذ اندفع عدد من الصحافيين الذين طالتهم إهانة باراك إلى القول بأنه «لم يقصد»، أو ترداد دفاع إسرائيل عن جريمتها بالزعم بأن الصحافيين في غزة ربما «كانوا في المكان الخطأ». إن هذه التبريرات ليست سوى آلية دفاع أيديولوجية لحماية البنية العميقة من التبعية، ولإبقاء الاستعلاء الغربي بمنأى عن المحاسبة.

أما من نهاية لهذا الاستعلاء!

إن تقاطع مشهد بيروت واغتيالات غزة إعادة تأكيد للمؤكد: فالمشكلة ليست في شخص باراك أو في حكومة الدولة العبرية وحدها، بل في ثقافة كاملة ما زالت تؤمن أن الشرق أدنى من الغرب. ثقافة تبدأ بالتصورات اللغوية والرمزية، ولا تنتهي بالقتل والاغتيال والتهميش. وهذا بالطبع لا يقدم أساساً صالحاً لبناء علاقات إيجابية تكسر الهوة التي صنعتها الأيديولوجيات المريضة بين الشرق والغرب منذ الحروب الصليبية إلى العدوان على غزة.
وإلى أن يثبت العكس، ستبقى إهانة باراك وصمت العالم على اغتيال الصحافيين الفلسطينيين تصويراً دقيقاً للوجه الحقيقي للثقافة الغربية حين تتحدث إلى الشرق، مهما برر لها المتغربنون بيننا ذلك.
٭ إعلامية وكاتبة – لندن



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد