حماية المستهلك في عصر البيانات الضخمة

mainThumb

07-09-2025 10:27 PM

لقد غيّرت البيانات الضخمة ووسائل التواصل الاجتماعي طبيعة السوق بشكل جذري. فأصبح المستهلكون يعقدون صفقاتهم، ويقارنون الأسعار، ويعبرون عن شكاواهم، ويبنون السمعة الرقمية في بيئات صُمِّمت أساساً لالتقاط الانتباه وتحقيق الأرباح من السلوك البشري. وفي الوقت نفسه، فإن أدوات التحليل الحديثة، مثل التخصيص الخوارزمي والتنبؤ بالسلوك، تعيد تشكيل ما يراه المستهلك، وما يدفعه، وما يُعرض عليه من خيارات. ونتيجة لذلك، لم يعد الخطر الذي يواجه المستهلك مرتبطاً بسلعة معيبة فحسب، بل بات يتعلق أكثر بفجوات المعلومات، وأساليب التلاعب السلوكي، وضياع الخصوصية، والأضرار الاجتماعية.
تشير الأبحاث إلى أن اختلال التوازن في القوة بين الشركات والمستهلكين قد تعمّق بسبب تركّز المعلومات والخوارزميات في يد المنصات التجارية. فالبيانات أصبحت مدخلاً لاستهداف المستهلكين وإقناعهم بطرق غير مرئية، بحيث تعرف الشركات عن تفضيلات الأفراد ونقاط ضعفهم أكثر مما يعرف هؤلاء الأفراد عن آليات التأثير التي تُمارَس عليهم. والنتيجة هي تآكل حرية الاختيار لدى المستهلك، إذ تبدو قراراته وكأنها فردية بينما هي في الحقيقة موجهة بواسطة أنظمة غير شفافة تسعى لتحقيق الربح.
ومن أبرز مظاهر ذلك، التسعير الديناميكي والتمييز الخوارزمي، حيث يتم فرض أسعار مختلفة على مستهلكين متشابهين، أو استبعاد فئات ضعيفة من العروض الجيدة، من خلال نماذج معقدة. وهذا الأمر لا يضر فقط بالفرد بل يخلق أيضاً تفاوتاً اجتماعياً جديداً، ويؤدي إلى انقسامات داخل المجتمع الاستهلاكي.
كذلك، برزت مسألة ما يُسمّى بـ "الأنماط المظلمة" في تصميم واجهات الاستخدام، وهي أساليب متعمدة لدفع المستهلك لاتخاذ قرارات لم يكن سيتخذها لولا طريقة عرضها. ومن الأمثلة: إخفاء خيار إلغاء الاشتراك، أو إظهار إشعارات وهمية بوجود نقص في المنتج لخلق شعور زائف بالعجلة، أو صعوبة الخروج من خدمة معينة. هذه الممارسات لا تؤثر فقط على الأفراد، بل تضعف الثقة العامة في السوق الرقمية وتؤسس لسلوكيات تجارية غير عادلة.
أما الخصوصية، فهي تبقى قضية محورية. إذ لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد "موافقة" يوقعها المستهلك على سياسات طويلة ومعقدة. بل الأهم هو فهم السياق الاجتماعي للمعلومة، وما إذا كان من المناسب مشاركتها في هذا السياق أو لا. على سبيل المثال، مشاركة البيانات مع الطبيب أمر طبيعي، لكن إعادة بيعها لشركات الإعلانات الرقمية أمر يخرق خصوصية الفرد ويزعزع ثقته.
كما تتزايد المخاطر المرتبطة بالمعلومات المضللة والسمعة الرقمية. فوسائل التواصل قد تنشر ادعاءات كاذبة عن منتجات أو تروّج لمراجعات وهمية، مما يضر بثقة المستهلكين بالسوق. في مثل هذه الحالات، يحتاج المجتمع إلى آليات تحقق سريعة، وتعاون بين المنصات والمؤسسات التعليمية، وبرامج توعية رقمية تزرع لدى الأفراد القدرة على التحقق والنقد.
وتبرز الفئات الضعيفة – مثل الشباب والمراهقين وذوي الدخل المحدود – كأكثر المتضررين من هذه الممارسات. فالمراهقون في الأردن، على سبيل المثال، هم من بين الأكثر استخداماً لوسائل التواصل، لكن وعيهم بطرق استخدام بياناتهم محدود. وقد أظهرت بعض الدراسات المحلية أن جزءاً كبيراً منهم يشارك معلومات شخصية حقيقية دون إدراك للعواقب، ما يجعلهم عرضة للتتبع أو الاستغلال عبر الإعلانات أو الخدمات الرقمية.
وبالنسبة للأردن، فقد شكّل صدور قانون حماية البيانات الشخصية لعام 2023 خطوة مهمة نحو تعزيز حماية المستهلك في البيئة الرقمية. حيث يمنح القانون للمستهلك حق الوصول إلى بياناته، وسحب الموافقة على استخدامها، ومعاقبة الجهات التي تسيء استغلالها. ومع ذلك، فإن نجاح هذا القانون يعتمد على تطبيقه الفعلي من خلال المؤسسات، وبناء القدرات التقنية، وزيادة وعي المستهلكين بحقوقهم.
تشير الدراسات المتعلقة بالتجارة الإلكترونية في الأردن إلى أن المستهلكين يستخدمون المنصات الرقمية بشكل متزايد لشراء السلع والخدمات، لكنهم يعبرون أيضاً عن مخاوف تتعلق بالاحتيال، أو غياب السياسات الواضحة للإرجاع والاستبدال، أو صعوبة التحقق من مصداقية البائعين. كما يظل عنصر الثقة الاجتماعية – مثل السمعة العائلية والتوصيات الشخصية – عاملاً أساسياً في اتخاذ القرار الشرائي. وعندما يتم تقويض هذه الثقة عبر الممارسات المضللة أو الخوارزميات غير الشفافة، فإن النسيج الاجتماعي للسوق يتعرض للخطر.
وقد أطلقت الأردن مبادرات عدة لتعزيز التثقيف الرقمي، مثل إدماج مفاهيم محو الأمية الإعلامية والرقمية في المناهج الدراسية، وإقامة ورش تدريبية للشباب حول الأمن السيبراني. هذه البرامج لا تعزز فقط وعي الأفراد، بل تساهم في بناء ثقافة مجتمعية أكثر قدرة على مواجهة التلاعب وحماية المستهلك.
إن حماية المستهلك في عصر البيانات الضخمة ووسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد حماية فرد من سلعة معيبة، بل باتت حماية للنسيج الاجتماعي من أشكال جديدة من الاستغلال وفقدان الثقة. وإذا تمكن الأردن من الجمع بين التشريعات الحديثة، والقدرات المؤسسية، والتثقيف المجتمعي، فإنه لن يحمي مستهلكيه فقط، بل سيصبح نموذجاً إقليمياً في كيفية التعامل مع تحديات الاقتصاد الرقمي بشكل عادل ومستدام.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد