كنتُ زائرًا علميًا في مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية بجامعة شنغهاي

كنتُ زائرًا علميًا في مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية بجامعة  شنغهاي

11-12-2025 10:05 PM

في صيف عام 2024 سنحت لي فرصة أكاديمية فريدة حين كنتُ زائرًا علميًا في مركز الدراسات الصيني–العربي للإصلاح والتنمية بمدينة شنغهاي. وقد مثّلت هذه الزيارة محطة محورية في مساري البحثي، ليس فقط لأنها أتاحت لي التفاعل المباشر مع نخبة من الباحثين والخبراء الصينيين والعرب، بل لأنها قدّمت نموذجًا حيًّا لكيفية بناء الجسور المعرفية بين الحضارتين الصينية والعربية في لحظة عالمية تتزايد فيها الحاجة إلى الحوار، والتفكير المشترك، وصياغة رؤى جديدة للتنمية والأمن والتفاعل الحضاري.
منذ الأيام الأولى للزيارة، أدركت أن المركز يعمل وفق رؤية عميقة تهدف إلى دعم الفهم المتبادل، وتعزيز مسارات الإصلاح والتنمية، وبناء قاعدة معرفية تؤسّس لمرحلة جديدة من العلاقات العربية–الصينية. وقد جاءت مشاركتي عبر تقديم سلسلة من المحاضرات العلمية التي شكّلت محورًا للتفاعل وفتح النقاشات الواسعة بيني وبين الأساتذة والطلبة والباحثين.
فقد قدمت عدة محاضرات لطلاب جامعة شنغهاي للدراسات الدولية؛ منها:
نظرية الأمن الفكري: بين الضرورات الوطنية ومسؤوليات المعرفة
كانت المحاضرة الأولى حول نظرية الأمن الفكري، وقد شكّلت مدخلًا مهمًا لعرض منظومة مفاهيمية معاصرة حول كيفية حماية المجتمعات من التهديدات الفكرية دون المساس بحرية الفكر والإبداع. ركّزت على أن الأمن الفكري في العالم العربي والصين يواجه تحديات متشابكة، أبرزها سرعة التحولات الرقمية، وتكاثر منصات المعلومات، وتزايد الاستقطاب الأيديولوجي.
ناقشنا خلال المحاضرة كيف يمكن للدول بناء منظومات متوازنة تُحصّن الوعي دون أن تنتج خطابًا منغلقًا أو إقصائيًا، وكيف يمكن للجامعات والمراكز البحثية أن تلعب دورًا رئيسيًا في ترسيخ التفكير النقدي، وتصميم برامج أكاديمية تُحرّر العقل لا أن تقيده. وقد أثار هذا الموضوع اهتمام العديد من الباحثين الصينيين الذين وجدوا تقاطعات واضحة بين التحديات التي تواجهها الصين، وتلك التي تواجهها المجتمعات العربية في سياق العولمة والتقنية العالية.
اما المحاضر الثانية فكانت بعنوان:
العلاقات العربية–الصينية: قراءة متعددة الأبعاد
في محاضرتي الثانية، تناولت العلاقات العربية–الصينية من جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية. كان هدفي تفكيك سرديات العلاقة التي كثيرًا ما تُختزل في الجانب الاقتصادي أو مبادرة الحزام والطريق، بينما هي في الحقيقة علاقة تاريخية ممتدة تعود إلى طرق التجارة القديمة، وتشهد اليوم تطورًا غير مسبوق في إطار رؤية الصين للعالم النامي، ورغبة الدول العربية في بناء شراكات متوازنة بعيدًا عن إرث الهيمنة الدولية.
تطرقتُ إلى التحول في الدبلوماسية الصينية تجاه الشرق الأوسط، وإلى دور الصين في قضايا التنمية وبناء البنى التحتية، ودعم الاستقرار الإقليمي، إضافة إلى النمو المتسارع في التبادل الثقافي واللغوي. وقد فتح هذا النقاش بابًا واسعًا للمقارنة بين النماذج التنموية، حيث تبادلنا الرؤى حول إمكانية تطوير نموذج تعاوني عربي–صيني قائم على المنفعة المشتركة واحترام الخصوصيات، بعيدًا عن منطق الكتل الجيوسياسية.
التعليم والاستفادة المتبادلة بين الحضارتين في ظل مبادرة الحضارة العالمية
أما المحاضرة الثالثة فكانت حول التعليم والتفاعل الحضاري بين الصين والعالم العربي، خصوصًا في سياق مبادرة "الحضارة العالمية" التي طرحها الرئيس الصيني، والتي تركز على الحوار والاحترام المتبادل وتنوع طرق تحقيق التقدم.
قدّمتُ تصورًا حول كيفية بناء جسور تعليمية وحضارية من خلال:
توسيع برامج التبادل الأكاديمي.
بناء مراكز بحثية مشتركة في العلوم الإنسانية والذكاء الاصطناعي.
تعزيز تعليم اللغة العربية في الصين واللغة الصينية في الدول العربية.
تطوير مناهج مشتركة حول تاريخ الحضارات، وأساليب التفكير، ونماذج التنمية.
كما ناقشنا أهمية التعليم كأداة لإعادة اكتشاف عمق الروابط الحضارية بين الطرفين، خاصة أن كليهما يمتلك إرثًا إنسانيًا كبيرًا في الفلسفة، والأدب، والعلوم، وإدارة الدولة.


اما بخصوص الزيارة العلمية لمشروع: G60 ونماذج الإبداع التقني الصيني
كان من أبرز محطات الزيارة جولاتي العلمية في مجمع G60 للابتكار التكنولوجي، وهو نموذج مدهش للتنمية المبنية على الابتكار، وتكامل الصناعة مع البحث العلمي، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في التخطيط الاستراتيجي.
شاهدتُ عن قرب كيف تُدار المدن الذكية، وكيف تُبنى الصناعات المتقدمة، وكيف أصبح الابتكار جزءًا من الهوية التنموية للصين. وقد أثارت هذه التجربة لديّ مجموعة من الأسئلة حول إمكانية نقل بعض هذه الرؤى إلى الوطن العربي، ولا سيما فيما يتعلق بالتحول الرقمي، والتصنيع المتقدم، وتطوير التعليم المهني والتقني والتكنولوجي.
كما تضمنت الزيارة محطات في مواقع مختلفة تشكّل علامات فارقة في الرؤية الصينية المعاصرة، سواء في التخطيط الحضري، أو إدارة الطاقة، أو تطوير البنى التحتية.
كما اهلمتني الزيارة بكتابة مقالات: شنغهاي ونهرها العظيم
خلال إقامتي، كتبت عدة مقالات حول مدينة شنغهاي، التي تشكل مختبرًا حضريًا فريدًا يجمع بين الحداثة المتسارعة وروح الصين التقليدية.
ومدينة شنغهاي التي تركت اثر بالغ وذكريات جميلة في وجداني بنهر اليانغتسي العظيم الذي ينساب مثل شريان ثقافي واقتصادي يعكس تاريخ المدينة وتحوّلاتها ويمر عبر قلب المدينة ويقسمها إلى قسمين. تأملت كيف تحولت ضفافه إلى فضاءات تكنولوجية، ومراكز مالية عالمية، ومناطق ثقافية تعكس تنوع الصين وانفتاحها.
وفي مقالات أخرى تحدثت عن المراكز العالمية المتميزة في شنغهاي ، والمراكز البحثية التي تتنافس عالميًا في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والعلوم الطبية وعلوم التكنولوجيا. فكانت الكتابة محاولة لتوثيق رؤية ميدانية عن مدينة لا تنام، وعن مستقبل يتشكل أمامك لحظة بلحظة.
خلاصة الزيارة: المعرفة جسر، والتجربة مدرسة
قدّمت لي هذه الزيارة العلمية للمركز، والمحاضرات، والجولات البحثية، فرصة لرؤية الصين بعيون الباحث لا السائح؛ رؤية تلتقط تفاصيل التحول الصيني وتضعها في سياقات مقارنة مع واقعنا العربي.

أدركت أن الحوار العربي - الصيني ليس ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة استراتيجية لقراءة العالم القادم. ولعل أهم ما خرجت به هو أن الحضارتين العربية والصينية تمتلكان الكثير مما يمكن أن تتبادلاه من قواسم مشتركة يبنى عليها مستقبل مشترك، إذا أُحسن تنظيم المعرفة، وتفعيل التبادل، وتوسيع دائرة الثقة الفكرية والثقافية.
إن تجربة صيف 2024 لم تكن مجرد زيارة علمية، بل كانت مساحة لإعادة التفكير في معنى التعاون الحضاري، وفي إمكان بناء مستقبل مشترك أكثر تكاملاً وتوازنًا، يقوم على المعرفة والاحترام والاستفادة المتبادلة—وهي القيم التي تؤمن بها كلتا الحضارتين منذ آلاف السنين.كما ان ارحب باي دعوة من الجامعات الصينية او المراكز البحثية المتخصصة للقيام بزيارة علمية طويلة لمعرفة المزيد عن الحضارة الصينية العريقة وتقدمها التقني والتكنولوجي، الذي تعزز برؤية استراتيجية ثاقبة من الزعيم الصيني شي جيبينغ الذي اعاد رسم خارطة النفوذ الصيني عالميا.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد