وصفة الخلود السرية

mainThumb

23-09-2025 09:47 AM

هذه الأيام انشغلت، كما هي عادتي، مع شخصيات تقفز إلى حياتي من دون مقدمات، وكأن أرواحهم القديمة تبدأ بالنقر على نافذة روحي بغية إتمام انغماسي بالفن ولا شيء غيره؛ وكان انشغالي هذه المرة بالمطرب البريطاني من أصول تنزانية، فريدي ميركوري، حيث أعدت اللحاق بتفاصيل حياته المثيرة قبل أن يموت مبكراً بعمر الـ 45 عاماً متأثراً بمضاعفات مرض الإيدز المناعي. ما هالني هو تعليقات الناس من الأجيال الجديدة والسابقة في آن، والتي لا تخلو من هوس وحب يتجاوز حتى في بعض المواضع جنون الناس بمايكل جاكسون وغيره من الأيقونات العالمية.
كان هناك تعطش واضح في مجرى الزمن لنجم رحل مبكراً قبل أن يشبع الفن من موسيقاه الغريبة التي تمزج الشرق بالغرب في خلطة سحرية لم يسبقه بها أحد. بينما اتضح أن الرحيل مبكراً هو العلامة الفارقة في هذا الحدث؛ والذي ضمن له الخلود وكأنه ولد للتو. كثيراً ما يتردد في رأسي هذا السؤال الموجع: لماذا يخطف الموت مبكراً أولئك الذين يملكون أشد الأرواح توهجاً؟ كأن الشرارة الإبداعية لا تمنح بشكل مجاني، بل تتغذى على العمر مما يقصره. هذا السؤال يلاحقني كلما تذكرت «نادي السابعة والعشرين» ربيعاً، ذلك النادي غير الرسمي الذي ضم عظماء الموسيقى الذين رحلوا في عمر السابعة والعشرين مثل جيم موريسون وجانيس جوبلين وكورت كوبين وإيمي واينهاوس؛ إذ لم يجمعهم عقد واحد من الحياة، لكنهم تشاركوا في الموت المبكر، وفي الأسطورة التي خلفوها وراءهم. وإذا كان هذا النادي قد ارتبط بعالم الموسيقى، فإن للأدب أيضاً أنديته الخفية، حيث رحل شعراء وكتاب قبل أن يصلوا الأربعين، تاركين أعمالاً قصيرة العمر، طويلة الأثر.
جون كيتس مثال واضح على هذا القدر؛ إذ لم يعش أكثر من خمسة وعشرين عاماً، لكن قصائده الرومانسية جعلته خالداً. كتب عن الجمال والزوال وكأنه يعرف أن الموت يقف على بابه. فكانت قصيدته «إلى قمر الليل» تهمس بنغمة وداعية، كأنها نبوءة رحيله. صديقه بيرسي بيش شيلي، لم يعش أطول منه بكثير؛ غرق في البحر وهو في التاسعة والعشرين. كان صوته ثورياً، يرفع راية الحرية والعدالة، وحين ابتلعته الأمواج لم تغرق أشعاره معه، بل جعلت منه أسطورة. أما آرثر رامبو، فقد كتب كل شيء قبل أن يبلغ العشرين، ثم ترك الشعر وكأنه يحرق آخر أوراقه بيده، ليموت في السابعة والثلاثين بعد أن قلب موازين الشعر الأوروبي رأساً على عقب.
وفي العالم العربي، لم يكن المصير مختلفاً. أبو القاسم الشابي، الذي رحل في الخامسة والعشرين، لم يترك سوى ديوان واحد، لكنه كان كافياً ليخلده إلى الأبد. يكفي أن نسمع صرخته: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر»، لنعرف أن العمر القصير لم يمنعه من أن يمنح أمة بأكملها نشيداً خالداً. وفي العراق رحل بدر شاكر السياب في عمر الثامنة والثلاثين، بعد أن فتح للشعر العربي باباً جديداً بالقصيدة الحرة. كان صوته مجروحاً بالمنفى والمرض، ومع ذلك كتب «أنشودة المطر» كأنه يودع الحياة ويرحب بالموت في آن واحد. كانت قصائده مثل سيرة ذاتية للإنسان الذي يعرف أن الزمن لا يترك له إلا ومضات، لكنه يجعل منها مشاعل.
أما في الأدب الغربي الحديث، فقد تركت إميلي برونتي رواية واحدة فقط: «مرتفعات وذرنغ»، ثم رحلت في الثلاثين. لم تكن بحاجة إلى أكثر من ذلك لتصنع مكاناً أبدياً لها في تاريخ الرواية. شقيقتها آن برونتي، ماتت قبلها بسنة وهي في التاسعة والعشرين، فخسرت إنكلترا موهبتين في عمر واحد. وفي القرن العشرين جاءت سيلفيا بلاث، لتضيف فصلاً جديداً لهذه الحكاية المأساوية. انتحرت في الثلاثين، لكنها تركت قصائد تدرس في الجامعات، قصائد تعترف فيها بجرأة بكل ما يخيف الآخرين من قول الحقيقة.
ما الذي يجمع هؤلاء جميعاً؟ ليس العمر وحده، بل ذلك الاحتراق الداخلي. يبدو أن المبدع الذي يضيء بسرعة يستهلك وقوده مبكراً. فالفن الذي يمنحهم القدرة على الرؤية العميقة يضع على أكتافهم عبئاً أثقل مما يحتملونه. ومثلما صار «نادي السابعة والعشرين» رمزاً لعلاقة الإبداع بالموت المبكر في عالم الموسيقى، يمكن أن نرى في هؤلاء الأدباء ملامح نادي مواز، حيث الأعمار القصيرة لا تمنع من كتابة الخلود.
الموت لم يسرقهم، بل جمد صورهم في ذروة شبابهم. لم ينالوا فرصة الشيخوخة، لكنهم نالوا ما هو أندر: أن تبقى أصواتهم عالية إلى الأبد. جون كيتس، الذي كتب أنه يعيش في «ظل الموت»، والشابي الذي آمن أن الشعب إذا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، ثم بلاث التي كشفت هشاشتها بلا مواربة، والسياب الذي أنشد المطر في أرض عطشى، وطرفة بن العبد الذي ترك معلقته على الكعبة المشرفة في عمر السابعة والعشرين… كلهم صاروا علامات، لا تقاس أعمارهم بعدد السنين بل بما تركوه من أثر، بقي مثل ندبة في وجه الفن.
الإبداع حين يرحل مبكراً لا ينطفئ، بل يتحول إلى نجم يحترق في سماء الذاكرة. وكأن الموت، بدل أن يسكتهم، جعل أصواتهم تنفد إلى المستقبل المستمر، وحول حياتهم القصيرة إلى حياة طويلة في وجدان البشر. هكذا يصبح السؤال عن قصر أعمارهم أقل أهمية من الجواب الذي تركوه: أن الفن حين يكتب بصدق لا يموت، وعلى وجه الخصوص حين يرحل صاحبه شاباً، فإنه يحجز مكانه بيننا إلى هناك وإلى الأبد. وتلك هي مفارقة الابداع في الوجود، حيث عمر الفن يتجاوز عمر الفنان، وحيث السنوات تعد على إيقاع القصائد والأغاني.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد