سذاجة المبدع الأخاذة

mainThumb

30-09-2025 10:27 AM

قبل سنوات التقيت مع مجموعة في لندن بمفكر عربي ينحدر من أصول أرستقراطية. كان يحمل من التواضع واللطف ما يأسر القلب والوجدان. كنت أراقب إيماءاته، وفي ذهني تاريخه المعرفي الطويل واسمه الذي يلمع في فضاء الثقافة العالمية، ومع ذلك بدا أمامي كطالب صغير يجلس في حضرة أساتذته الكبار. فما إن يذكر أحدنا فكرة في الفلسفة أو الفن حتى يندهش وكأنه يستمع إلى حنا آرنت أو هايدغر أو هولدرلن أو بيكاسو، وقد بعثوا من جديد.
في البداية أربكني تواضعه. كدت أن أنخدع بمديحه السخي وانبهاره بما أقوله، حتى بأبسط المعلومات، لكن سرعان ما اصطدمت بمحدوديتي الحقيقية عندما شرع هو بالحديث. كان يعرض فكرة فلسفية بالغة التعقيد بلغة آسرة، ويمزجها بسرد تاريخي لم أكن أعلم عنه شيئًا. ما شدني في شخصيته أنه، على الرغم من ثرائه المعرفي وعمقه في التأويل والتنظير، كان يتعامل في حياته الاجتماعية ببراءة طفل. يسلك بساطة عجيبة أمام أحابيل الناس ومكائدهم، ويصدّق القصص التي يرويها الآخرون حتى وإن كانت مرتبكة وغير منطقية، ثم يعلّق عليها بانفعال وتعاطف قد لا يصدقها طفل في الثامنة من عمره.
تذكرت حينها الكاتب النمساوي بالغ الرهافة ستيفان تسفايغ في مذكراته «عالم الأمس». كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى في فيينا، لكنه عاش بين أصدقاء من البرجوازية اليهودية. وصف نفسه بأنه ساذج اجتماعيًا إلى حد كبير، مدفوعًا بفضول لا ينضب وحب جارف للفن والأدب. وعندما انتقل إلى برلين انجذب إلى حلقات هامشية تضم مثليين، ومدمني المورفين، ومحتالين ومساجين. كان يرى في هؤلاء الصعاليك قلوبًا متقدة، تعيش بلا مبالاة عظيمة، تبذّر صحتها ووقتها وسمعتها في سبيل شغفها بالوجود. انجذب إلى هذا العالم حتى تراكمت خيباته، بعدما ردّ كثيرون إحسانه بالخداع والأذى، فغرق في يأس عميق من الناس، حتى إنه لم يتحمل بعد ذلك أهوال الحربين العالميتين الأولى والثانية، فاختار أن ينهي حياته مع زوجته لوتا في البرازيل عام 1942.
إن ما تركه تسفايغ في «عالم الأمس» ليس مجرد سيرة ذاتية، بل احتفاء بأصدقائه المبدعين الذين ملؤوا حياته. كان من شدة إعجابه بالآخرين يعجز عن الحديث عن نفسه إلا من خلال انبهاره بكل ما هو متخارج عن ذاته. هذه البراءة في النظر إلى العالم، التي قد يصفها البعض بالسذاجة، هي الجوهر الأصيل للمبدعين الحقيقيين. إذ إن افتراض حسن النية عند كل إنسان يفتح لهم بابًا إلى تجريد صوفي مدهش، يجعلهم قادرين على التماس نقاء لا تصله العقول المثقلة بالأحكام المسبقة والموروثات الثقيلة والمحمولات الثقافية المتراكمة.
ربما كان هذا ما جعل عبقريًا مثل موزارت، على الرغم من غِرّه وسرعة انخداعه، يتربع على قمة الموسيقى لأكثر من قرنين كاملين. فقد كانت عبقريته تتدفق من طفولة داخلية قادرة على توضيح الأشياء، وتجريدها من شوائب التاريخ ومصالح العابرين.
صحيح أن الثمن الذي يدفعه المبدع من هذا النوع يكون قاسيًا: سلسلة من الخيبات، وربما انكسار الروح نفسها ويأس ينذر بعطب في الشعور. لكنه في المقابل يرفد العالم بجمال استثنائي، وبنية صافية تجعل الوجود أكثر احتمالًا. إنه الكائن الذي خُلق للفن، ولا شيء غير الفن.
حتى اللحظة لم أدرك سر انبهاري بذلك المفكر الذي التقيته في لندن، هل كان بسبب قدرته على الوضوح المعرفي، أم عبقرية سذاجته التي لا تحجبها أفكاره الأصيلة؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد