النكبة الفلسطينيّة: سرديّة تسجيليّة

mainThumb

12-10-2025 10:21 AM

من أهم أدوار الرواية التسجيلية أنها تحفظ للوقائع العصيبة تفاصيلها، وتساعد – بما ترصده من معطيات، وما تتوصل إليه من حقائق- في توثيق ما لا يوثقه المؤرخون غالبا. ولأننا نمرُّ في حياتنا العربية الراهنة بوقائع مصيرية تتمثل في الإبادة الجماعية التي تجري في غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، تصبح كتابة الرواية التسجيلية أمراً محتماً بحتمية الاحتدامات المتواصلة والتداعيات المتسارعة التي تحتاج إلى من يوثق دقائقها لحظة بلحظة ويوماً بيوم، مستعيناً بعين الإخباري حيناً، والمؤرخ والصحافي وشاهد العيان حيناً آخر، كي يسجِّل ما تتعرض له غزة وغيرها من المدن الفلسطينية من تفاصيل الإبادة الجماعية. وبهذا تكون الرواية التسجيلية وثيقة إدانة للكيان الصهيوني الغاصب، وشهادة توثق للأجيال القادمة صمود الإنسان الفلسطيني.
وانطلاقا من هذه الأدوار، يغدو مهماً ن تستعيد الرواية التسجيلية وجودها نوعا روائيا، يَصعد إلى الواجهة الأدبية بعد تلك الأعمال الروائية الكبيرة التي أنجزها ساردون تسجيليون عرب. استحثتهم الوقائع المفصلية في حياتنا العربية، فسجَّلوا وقائع النكسة وما تلاها من مجريات الحرب الأهلية في بيروت، والتصفية الوحشية للقوى التقدمية في العراق، وما إلى ذلك من وقائع جسام. ولقد وقفت في كتابي «الرواية التسجيلية: اشتراطات النوع السردي» على عدة أعمال روائية تسجيلية، وكنت أطمح ـ بسبب عديد هذه الروايات الذي لا يتجاوز أصابع اليدين- أن أتوصل إلى كتاب «النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود» للأديب والمناضل عارف العارف (1891-1973)، غير أنّي للأسف لم أستطع ـ وقت تأليف الكتاب- أنْ أقع عليه، لعدم توفره في المكتبات العراقية.
وشاءت الصدف أن أجده مؤخرا، فإذا به أضخم رواية تسجيلية عربية، وأكثرها أهمية. والسبب ما دوّنه المؤلف فيها – على مدى أعوام عدة – من تفاصيل كثيرة ودقيقة لما قبل وقائع نكبة 1948 وما بعدها، بدءاً من الاستعمار البريطاني ثم الانتداب، وما تلاه من انسحاب واحتلال صهيوني وتأسيس دولة غاشمة، اخترعتها الإمبريالية العالمية.
وإذا كانت ندرة وجود هذا الكتاب في المكتبة العربية غريبة، فإن الأكثر غرابة هو تغافل النقد العربي عن إيلاء عارف العارف الاهتمام الذي يناسب سيرته الذاتية وإنجازاته الأدبية والفكرية التي تكشف عن كاتب أدبي ذي وعي تاريخي وإرث نضالي يستحقان الإشادة والتقدير.
بدأ العارف مشواره الحياتي طالبا فلسطينيا ألمعيا، أسس في جامعة استنابول جريدة (ناقة الله) ثم سيق إلى الحرب العالمية الأولى. ووقع في أسر الروس الذين أرسلوه إلى معتقل في سيبيريا. ولم ينج من المعتقل إلا بعد أن قامت الثورة البلشفية على القياصرة عام 1917 فهرب من روسيا لينضم إلى طلائع الثورة العربية في الحجاز بقيادة الشريف حسين بن علي ثم عاد إلى فلسطين. ويا لخيبة أمله وقد وجد وطنه محتلا من قبل الصهاينة، فقاوم المستعمرين وأسس في القدس جريدة «سورية الجنوبية»، وفيها حرَّض العرب ضد الانكليز واليهود. الأمر الذي دعا سلطات الاحتلال إلى اعتقاله وإغلاق جريدته، وحوكم غيابياً، لكنه كان قد تمكن من الهرب إلى الشام. وحين صدر قرار العفو العام عن المعارضين، عاد العارف إلى فلسطين بعد أعوام كثيرة ليواصل كفاحه ضد المستعمرين. وبسبب ما له من وجاهة اجتماعية ومكانة سياسية تولى على مدى أربعة عشر عاما إدارة قائمقاميات مدن فلسطينية عدة. وكان في أثناء ذلك يواصل عمله الأدبي كاتبا تسجيليا ومؤرخا إخباريا. فألف كتبه «القضاء بين البدو» 1933، «تاريخ بئر السبع» 1934، «الموجز في تاريخ عسقلان» 1943، «تاريخ القدس» 1951، «رؤياي» 1954، وكتبا أخرى ترجمت إلى لغات عدة. وثمة ثلاث مخطوطات لم تحقق إلى الآن – على حد علمنا – هي «كنت أسيرا/ ثلاثة أعوام في عمان/ الكويت ماضيها وحاضرها».
أما أهم كتاب انصرف العارف إلى تأليفه من العام 1947 إلى العام 1959 فهو روايته التسجيلية الضخمة «النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود» وتتألف من أربعة أجزاء، تتوزع بين ستة مجلدات. وفيها وثَّق العارف باليوم والشهر والسنة جرائم الصهاينة في التطهير العرقي لسكان فلسطين الأصليين. فأما الجزء الأول، فوثَّق نضال الفلسطينيين في أعقاب صدور قرار التقسيم في 29 / 11/ 1947. وفيه سجَّل العارف بطولات فرق الجهاد المقدس وفرق التدمير ومنظمات الشباب وجيش التحرير. وأضاف إليها سرديات أُخرى عن مشاكل السلاح والقيادات مما كان قد حصل بعد انسحاب الجيش البريطاني.
وخصص الجزء الثاني من رواية «النكبة الفلسطينية» لتسجيل دور الجيوش العربية الستة: الأردني والعراقي واللبناني والسعودي والمصري والسوري في اجتياز الحدود وخوض المعارك، وبماذا انتهت ولماذا وكيف؟ ثم سرد تفاصيل معارك الحي اليهودي في القدس ودور المجاهدين المسلمين وجيش الإنقاذ فيها. وتمم في الجزء الثالث الحديث عن النكبة، فسجَّل وقائع الاتفاقيات التي جرت بعد قرار مجلس الأمن فرض الهدنة. وسجَّل الجزء الرابع معارك النقب ومؤتمر أريحا واتفاقيات الهدنة في رودس، وما وقع بسببها من خسائر في الأرواح والممتلكات العربية، ثم تاريخ الهاغانا والأرغون وشترن وحيروت وسائر الأحزاب والمنظمات اليهودية وكارثة المثلث ومؤتمر بلودان ونصوص الهدنات بين العرب وإسرائيل وقضية اللاجئين.
وجاءت في ختام هذه الأجزاء الأربعة جداول إحصائية مهمة وكبيرة، دوَّن فيها العارف معلومات محددة عن شهداء النكبة من العرب والأجانب الذين ضحوا بأرواحهم من أجل فلسطين وشعبها. وأطلق على المجلد الذي ضمَّ هذه الإحصائيات اسم «سجل الخلود» وفرغ من إعداده عام 1962. ومن تلك الجداول ما هو رسمي، حصل عليه العارف من وزارات الدفاع العربية التي أتاحت له الاطلاع على سجلات وبيانات شهداء القتال، فدوَّن أسماءهم ومواليدهم وزمان ومكان استشهادهم. ومن الجداول ما هو شعبي، يتعلق بعدد المنظمات الشعبية التي أسست لإنقاذ الشعب الفلسطيني مثل جمعية بغداد وكانت ترسل المتطوعين وتزودهم بالمال والسلاح وتدفع التعويضات لعائلات الشهداء.
ومن الملاحظ على سجل الخلود، خلوه من إحصائيات خاصة بأسماء الأسرى وعددهم ومدد أسرهم ومصائرهم. ويبدو أنَّ ثمة مجلدا سابعا خصصه العارف للصور والأخبار والخرائط والشهادات وغيرها من الوثائق التي تثبت ما قام بتسجيله في الأجزاء الأربعة من الرواية.
ومن الناحية الفنية، تبنى سردية رواية «النكبة الفلسطينية» على وفق تسلسل الزمان الروزنامي باليوم والشهر والسنة، وفيها يسرد العارف ما جرى من قتال أو تشريد أو قمع أو قصف؛ فمثلا جاء في سردية يوم 19/1/1947 ما يأتي: «في هذا التاريخ أغارت على محطة السكة الحديدية بغزة ظهرا ثلاث طائرات يهودية، فقذفتها بتسع من قنابلها، فقتل من جراء ذلك تسعة أشخاص وجرح أربعة. جلهم إن لم نقل كلهم من موظفي الصحة، نذكر منهم مفتش الحركة نصري الصانع. وهدمت بئر المازوت واحترق صهريج البترول».
ومن سمات هذا السرد التسجيلي أن المؤلف يستقصي استقصاء دقيقا تفاصيل الأحداث، فلا يترك شاردة أو واردة إلا وسجلها مع الاستعانة بالوثائق. وعادة ما يلمس القارئ في بعض التفاصيل المسجلة مفارقات تراجيدية، تكشف عن ضعف الصف العربي بسبب عدم حفظه الأسرار، ولأنه يظهر خلاف ما يبطن. وهي المفارقة نفسها التي نعيشها اليوم. وأحيانا يجد القارئ في السرد التسجيلي مفارقات تبهج القلب وتشرف كل عربي من قبيل ما يحمله العرب من أخلاق الفرسان وما في قلوبهم من رحمة بالضعفاء كما في سردية 20/1/1948 وملخصها أن العرب بقيادة الشيخ ياسين البكري ضمنوا لسلطات الاحتلال أن تنقل مرضاها وجرحاها تحت حراستهم في وقت كانت المعارك محتدمة بين الطرفين. ومثل ذلك سرديات الأبناء الأبطال الذين ينافسون آباءهم على البطولة والجهاد فداء لفلسطين.
ولا يتوانى العارف وهو في إثناء تسجيله تفاصيل الوقائع من تعليل بعض الحوادث أو تقديم وجهات نظر معينة أو طرح رؤى وإضافة تعليقات، تنم عن وعيه بخفايا الظواهر وإدراكه لخطورة ما يجري على الساحة العربية. ففي تسجيله لتفاصيل حادثة مؤتمر القاهرة الذي فيه اعترف الزعماء العرب بعجزهم عن مقاتلة أعدائهم، أضاف قائلا: «وما كادت أخبارهم تصل إلى اليهود، ولسنا ندري كيف وصلت؟ حتى قام هؤلاء بهجومهم على النقب، فسقطت المجدل وحوصرت الفالوجة وسقطت بئر السبع ومضى اليهود قدما عبر وادي العربة حتى احتلوا المرشرش وركزوا علم إسرائيل على شاطئ البحر عند خليج العقبة».
وكثيرة هي آراء عارف العارف السياسية التي تستشف من خلال السرد التسجيلي، منها ما جاء في سردية يوم 16/11/1948 وفيها أكد أن مجلس الأمن الدولي يكيل بمكيالين في التعامل مع العرب.
إنَّ كتاب «النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود» سردية تسجيلية ضخمة، أنجز فيها عارف العارف ما قد لا تنجزه مؤسسة بكاملها. فسجِّل أحداث وقائع عصيبة من تاريخنا العربي، فيها فلسطين أرض عربية اغتصبها الصهاينة بمؤازرة الإمبريالية العالمية. وما دام كل شيء موثقا بالأرقام والصور والشهادات والمذكرات والتقارير، فلن يضيع الفلسطينيون في التاريخ. إذ ستظل الأجيال تتناقل الحقائق حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.


*كاتبة من العراق



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد