هل مات «كافكا» حقاً

mainThumb

13-10-2025 09:24 AM

«اقتلني وإلا فأنت قاتل!» هذه الجملة الصادمة قالها الروائي كافكا مرتين، قالها صراحة لروبير كلوبستوك طالب الطب، الذي رافقه في أيامه الأخيرة وقد تمكّن منه مرض السل، يرجوه أن يوقف عذابه بإبرة قاتلة. وقالها مواربة وهو يوصي صديقه ماكس برود أن يحرق كتاباته بعد وفاته. وكلا الصديقين خان الأمانة، وقد برر برود عدم تنفيذ الوصية بقوله «سأخونه لأنني أحترمه»، وحسنا فعل فلولا هذه الخيانة الحميدة «لما كنا نعرف اليوم حتى اسم كافكا»، كما كتب مرة مواطنهما الكاتب التشيكي ميلان كانديرا في كتابه «الوصايا المغدورة». أما عصيان روبير كلوبستوك لرغبة كافكا، فقد رواها لنا الروائي الفرنسي لوران سيكسيك في روايته «فرانس كافكا لا يريد أن يموت» التي نشرتها دار غاليمار عام 2023، وصدرت هذه السنة في نسختها العربية عن دار الرافدين بترجمة محمد الفحايم.

ولوران سيكسيك – مؤلف هذه الرواية التي تجمع بين السيرة الذاتية والخيال- طبيب مختص في الأشعة كتب أطروحته الطبية عن مرض كافكا وستيفان زفايغ، ثم أفرد كلَّ واحد منهما برواية عن أواخر عمريهما، مصرحا بأنه في روايته عن كافكا لم يخترع شيئا، فكل ما ورد في كتابه حقيقي. ومنطلقا من تلك الجملة الصادمة «اقتلني وإلا فأنت قاتل!» ليسحب خيط حياته كما قال. وقد اختار عنوانا يبدو نقيضا لطلب كافكا «اقتلني»، غير أن قراءة تأويلية للعنوان تبين أن لا تناقض بين العنوان وطلبه الغريب، فالموت الحقيقي هو ما كان يشعر به من آلام حولته إلى «شجيرة عظام هشة»، قضت عليه في الأخير وهو في الحادية والأربعين من عمره نتيجة «التهاب الحنجرة السلي المتفجر، الذي أدى إلى اختلال التغذية والجفاف، بالإضافة إلى الحنجرة غزا المرض الرئتين والأمعاء والسحايا»، كما جاء في الفصل التمهيدي للرواية، هذا المرض الأخير الذي يستبطن مفارقتين أولاهما، أن السل الذي مزّق حلق كافكا فحرمه الكلام أو كاد جعله يكتب في آخر حياته بطريقة محمومة فاتخذ من الكتابة لسانا بديلا، والمفارقة الثانية أن جسد كافكا انطفأ في اللحظة التي بدأت فيها أعماله تشق طريقها إلى الخلود، فقبلها عانى كثيرا لنشر ما يكتب، وقد لخص ذلك في ما قاله لأحد أصدقائه ساخرا ـ كما جاء في الرواية: «عندما نشرت دار وولف كتابي الأول بيع منه أحد عشر كتابا، اشتريت بنفسي عشرة منها وأريد أن أعرف من الذي اشترى النسخة الحادية عشرة».

قسم لوران سيكسيك روايته إلى قسمين: ما قبل موت كافكا، وما بعده، غطت مساحة زمنية تمتد لنصف قرن (1921-1972) مع فجوة زمنية مقدارها ثلاثون سنة ابتداء من 1941. وقد بنى الرواية على أصوات ثلاث شخصيات رافقت كافكا في رحلة مرضه الأخيرة، وحملت عبء الحفاظ على ميراثه الأدبي، وإيصال صوته، رغم المخاطر الشديدة في أوروبا، ما بين الحربين العالميتين وتغوّل النازية يومها. وقد وفّق الروائي في هذا البناء متعدد الأصوات، فالرواة الثلاثة لا يتحاورون، بل يتكاملون مع كثير من التقاطعات بينهم، وهم: الصديق والحبيبة والأخت. يُشبه الراوي الأول روبير كلوبستوك كاتب الرواية فكلاهما طبيب أديب، ويستغل الروائي هذا التشابه – خاصة في التمهيد الذي افتتح به روايته ليقدم لنا وصفا دقيقا لمرض السل، يضفي جانبا سريريا وباردا على هذا المرض، الذي كان منتشرا كثيرا في بدايات القرن العشرين. وتتكفل شخصية روبير بحمل هذا الجانب العلمي، فحين التقى بكافكا في مصحة كيرلينغ ثلاث سنوات قبل وفاة كافكا، كان روبير طالب طب مصابا بالسل أيضا، يطمح لأن يصبح كاتبا، ولكن في آخر الرواية نجده في نيويورك أستاذا بارزا في جراحة الصدر، ومتخصصا معروفا عالميا في مجال السل، وكأنه ينتقم من هذا المرض الذي أصابه في أول عمره وفتك بصاحبه ومعلمه.
وقد وصف كافكا صديقه الجديد في رسالة إلى صديقه القديم ماكس برود، بأنه «طموح جدا، ذكيّ، طبيب موهوب، فُطر على الطبّ مناهض للصهيونية، يسوع وديستويفسكي هما ملهماه». والفرق بين الصداقتين القديمة والجديدة أن كافكا عرف ماكس برود على مقاعد الدراسة، حيث الأحلام الكبيرة والنقاشات الفلسفية والأيديولوجية، في حين أن علاقته بروبير تحكمها العزلة والألم في مصحة يتشاركان فيها المعاناة وشبح الموت. ويقع روبير في معضلة كبيرة حين يطلب منه مثله الأعلى أن يعجّل بموته الرحيم، ولكن التزام طالب الطب بالقوانين والأخلاق يحول دون تحقيق رغبة كافكا، فيعيش تأنيب ضمير بعد موت أستاذه، يضاعفه أن دورا حبيبة كافكا تتهمه بأنه منحها أملا كاذبا بإطالة عمر عشيقها ومعاناته.

في مقابل روبير الذي يجسّد صوت العقل العاجز، نجد دورا ديامانت العاشقة الوفية، التي تمثل صوت القلب الآمِل، وهي تحلم مع كافكا بأن يستقرا في فلسطين ويفتحا مطعما هناك. لدورا ديامانت Diamant) ) من اسمها نصيب، فهي تحمل نقاء الماس وشفافيته في عشقها لكافكا كما تحمل في الآن ذاته صلابته وهي تتعرض لرعب الغستابو الألماني والشرطة السرية السوفييتية، وما نتج عن ذلك من مخاطر السجن والمنفى في رحلة حياة كأنها إحدى قصص حبيبها بامتياز، هي المرأة الوحيدة التي التقت كافكا في نهاية حياته وعاشت معه كزوجة، وهي الشاهدة على حرق كافكا لبعض كتاباته «كم شاهدنا قصصك تستحيل دخانا» كما قالت وندمت على أنها لم تمنعه عن ذلك، والشاهدة الوحيدة بل المتسببة في خسارة دفاتر كافكا بعد وفاته، فقد رفضت أن تسلّمها لماكس برود واحتفظت بها في حقيبة ترافقها في سفرها وإقامتها، غير أن حظها التعيس أوقع الحقيبة في قبضة جهاز الغستابو، فاختفى كثير من كتابات كافكا المتأخرة إلى الأبد، ولم يبق معها سوى مشط عليه شعر كافكا حين كانت تمشطه قبيل وفاته. حياة دورا من لحظة فراق كافكا استحالت جحيما، فمن مضايقات البوليس الألماني، إلى التحقيقات المرعبة للبوليس السوفييتي، بعد أن كانت ترى موسكو «موئلا لكل الغايات، وملاذا للعدالة والمساواة، وملجأ للسلام المستعاد»، وكم كانت السخرية مريرة حين اعترضت دورا أمام المحقق السوفييتي على ما جاء في الموسوعة الأدبية لأكاديمية العلوم من أن كافكا توفي سنة 1926 وحين صححت المعلومة، قال لها المحقق: «من أنت حتى تشككي في إثباتات الموسوعة الأدبية؟

أتظنين أنك تعرفين أكثر من أكاديمي سوفييتي؟ إذا كُتب أن كافكا مات عام 1926 فهذا يعني أنه مات عام 1926، أما الباقي فهو مجرد تعديل بورجوازي». في الرواية فصل عن دورا أشبه بقصيدة عشق طويلة تبثه فيها وجدها، فتخاطبه بلغة صوفية «يا سيد حبي وعبد إيماني قدمت لأحج إلى المكان الذي عشت فيه»، وحين يقول لها ماكس برود، إن كافكا سيظل حيا من خلال كتاباته تقول دورا العاشقة «سأهب كل كتاباته لقاء لحظة واحدة من حضوره». ولم تكن دورا عاشقة كافكا الوحيدة في الرواية، فالصوت الثالث العاشق هو صوت أخته أوتْلا المدافعة الأبدية عنه أمام والده المتسلط، التي احتفظت برسالته الشهيرة إلى والده، ومن خلال روايتها للأحداث نرسم صورة لكافكا الابن الحساس، الواقع تحت ضغط أب متطلب حتى كتب يوما «يمكن لكل أعمالي الأدبية المكتوبة أن تحمل عنوان «محاولة الهروب من الأب». وقد لاقت أوتلا مصيرا مأساويا في عيد ميلاد أخيها الستين، حيث صفاها النازيون في غرف الغاز بمخيم أوشفيتز، وقد ربط الروائي ببراعة بين هذا المصير الشخصي والمآسي الجماعية التي خلفها صعود النازية.
من خلال روايات الصديق والحبيبة والأخت، نتعرف على كافكا الكاتب الذي وصفته حبيبته الأولى ميلينا بقولها «كان رجلا وفنانا موهوبا ذا وعي حساس جدا، لدرجة أنه كان يدرك بينما كان الآخرون الصم يشعرون بالأمان الزائف». ومن خلال بعض الحيل الفنية نأخذ فكرة وافية عن أدبه فحين يستجوب المحقق السوفييتي دورا، نقرأ بطريقة غير مباشرة تلخيصا جيدا لرواية كافكا «المحاكمة» ونتعرّف على مضامينها من الحوار الدائر بين المحقق والمتّهمة، وكذلك الأمر في فصل آخر يكشف لنا فيه حوارٌ طويل بين مجموعة من الكتاب اليهود الكثيرَ من أفكار كافكا، تجعل القارئ يتساءل – وقد أنهى قراءة رواية لوران سيكسيك «فرانس كافكا لا يريد أن يموت»- هل ما قرأه شذرات من سيرة ذاتية، أو سرد خيالي لكاتب لا يزال منذ قرن كامل مالئ الدنيا وشاغل الناس.

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد