التَعلُّم ومراحل التعليم في الأردنّ!

mainThumb

08-10-2025 01:11 AM

قصة جَدي مع العِلم في الأردن خلال بداية القرن الماضي
فالمرحوم جَدي، المؤرخ سليمان الموسى، عاش طفولته في قرية الرفيد (إحدى قرى مدينة إربد) وتعلّم على يدِ علماء الدين (الكُتّاب) وبعدها انتقل لمدرسة الحُصن الحكومية. لكن لم يستطع إنهاء المرحلة الثانوية بسبب ضيق ذات اليد (حيث أن والده توفي هو في السادسة من عمره بسبب نزلة برد). فعَمِل مدرّساً في مدرسة إربد وهو في السادسة عشرة ليساعد والدته التي كانت تعتني به وبشقيقته الصغرى. لكن قِلة الحيلة لم تمنعه من طلب العِلم! إذ ملأ جُعبته بمعلومات استقاها من الكُتب والروايات التي تركها له والده، والتي كان يستعيرها من المعارف أو يشتريها من المكتبة. غيرَ أنّ سُليمان لم يكتفِ بهذا، بل استقلّ قطار سكة الحجاز من إربد وذهب إلى حيفا في عام 1936حيث عَمِلَ في مكتبةٍ فيها وأشبع شغفه بقراءة الكتب والمجلات الموجودة فيها. لكنّ هذا الغياب كان ثقيلاً على والدته (فَرحة الناصر)، إذ لحقت به للسكّة بعد أن اكتشفت أنه ترك البيت فجراً وحاولت ثَنيه عن الذهاب، لكن دون جدوى. ووِصف سُليمان منظر والدته ودموعها تنهمرعلى خديها بالمثل القائل "قلبي على ابني وقلب ابني عالحجر". بقي سُليمان في حيفأ ثلاث سنوات يستزيد عِلما ومعرفة، إذ تعلم اللغة الإنجليزية تدريجياً باستخدام القواميس قبل أن يعود إلى قريته الرفيد. ثمّ طور لغته الإنجليزية عن طريق ممارستها بالحديث مع الإنجليز الذين كانوا يعملون معه في شركة بترول العراق الإنجليزية (IPC) في المفرق. لهذا كانت الأولوية الأساسية لجَدي هو إكمال تعليم أطفاله الستة لأنه حُرم من ذلك، والذين (والحمدُلله) أصبحوا أساتذة جامعات ومهندسين ومعلمات بجهدهم ودعم والديهم وجدتهم.
تأسيس الجامعة الأردنية ودورها في نَشر العِلم
بالإضافة لما سَبق، أسهب عمي المرحوم د.عصام سليمان الموسى (أستاذ الصحافة في جامعة اليرموك) بالحديث في كتابه "ذكريات الطفولة في المفرق 1944-1957" عن ذكرياته في الجامعة الأردنية، حيث أنه كان من خريجي الفوج الأول الذي دخل إلى الجامعة بتاريخ 15/12/1962. هذه الجامعة التي بُنيت أساساً لتكون كلية زراعية، لكن وعلى إثر قرار دولة مصر العربيّة بترحيل جميع الطلبة الأردنيين من جامعاتها، اتخذ المرحوم الملك الحسين قراراً شجاعاً (نظراً للظروف السياسية السيئة التي عصَفت بالأردنّ آنذاك) بتأسيس الجامعة الأردنية. وقد ضمَّ الفوج الأول 17 طالبة و150 طالباً من شرقيّ وغربيّ ضفة نهر الأردنّ، من بينهم صديقه من مدرسة رغدان المرحوم د.موسى جبريل (أستاذ علم النفس في الجامعة الأردنية). ولم يكن نظام التدريس بالساعات معتمداً في الجامعة الأردنية بعد، إذ كان يدرس الطلاب جميع المواد في السنة الأولى: اللغتين العربية والإنجليزية، والفلسفة، والجغرافية السكانية، والتاريخ العربيّ والمعلّقات. ومَن ينجح في جميع المواد ينتقل إلى السنة الثانية والتي فيها يتخصص الطالب بموضوع معين. ولقد تم تقسيم ال167 طالباً إلى شعبتين (أ و ب)، حيث تحتوي كل واحدةٍ منهما على 85 طالبا وطالبة. وكان الطلبة يتعلّمون ستة أيامٍ في الأسبوع (فالجمعة كان هو يوم العطلة الوحيد) لمدة تسعةِ شهورٍ متواصلة. وكانت الإجازة الصيفية ثلاثة شهور يرتاح أو يعمل فيها الطالب لتوفير النقود، إذ أنّ القسط السنوي كان يبلغ 24 ديناراً. ولقد كان نظام التدريس صارماً، حيث لم يَكن يُسمح للطالب بأن يرسب في أكثر من مادتين، على أن يقدمهما قبيل بدء العام الجامعي الجديد. لكن لم ينجح في السنة الأولى سوى 70 طالباً وطالبة! وكانت الجامعة تتكون من مبنيين اثنين: واحد للإدارة (والذي افتُتح في تسويته مقصف الجامعة)، ومبنىً آخر يتكون من ثلاثة طوابق. وكان الطابق الأول يحتوي على قاعات التدريس، أما المكتبة ومكاتب الهيئة التدريسيّة فكانت في الطابقين الثاني والثالث على التوالي. وكان رئيس الجامعة أ.د.ناصر الدين الأسد الذي كان أيضاً من ضمن الأساتذة الذين كانوا يقوموا بعملية التدريس. أما الأساتذة الآخرين فقد ضمّوا الدكتورعبد الكريم غرايبة وهاشم ياغي من الأردنّ، وفاخرعقل وعمر الحكيم وعادل العوا من سوريا، وعلي شلش من العراق. كما قام بتدريس الطلبة اللغة الإنجليزية الأستاذين بيلي من المركزالثقافي البريطاني وشِل من مكتب المعلومات الأمريكي. وكان الطلبة يمارسون هواياتهم الرياضية ككرة القدم والسلة والريشة الطائرة بإشراف الأستاذ محمد خير مامسر.
التَعلُّم والتعليم في الأردن (فقير الموارد) وإحدى الدول النامية الغنية - باكستان
في الجهة الأخرى من العالم وبالتحديد في قرية كورفيه (Korphe) الواقعة ضمن سلسلة جبال كاراكورام في أطراف باكستان الشمال شرقية، كان 78 ولداً و4 بنات يجلسون في العراء على أرض جرداء يستمعون لما يشرحه لهم أُستاذهم. كما كان الهواء البارد يهب قارصاً وجوههم البريئة المتشوقة للعلم والتعلُّم، وراشقاً فيها الأتربة المتطايرة وماحياً ما كتبوه. إذ أن معظم الأطفال كانوا يكتبون ما يشرحه المُعلّم على التراب مستخدمين أعواداً من الخشب، غير أنّ القليل منهم كان يملك لوحاً من الحجر يكتب عليه ما يتعلمه بعود خشبيّ بعد أن يغمسه في خليطٍ من الماء والطين. كذلك كان أطفال القرية يذهبون للمدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع فقط. لأنّ المعلم كان يقوم بتدريس أطفال قرية مجاورة في الأيام الثلاثة الأخرى، وذلك لقلّة الموارد المالية التي تُنفق على سكان هذه المنطقة بالرغم من أن باكستان دولة غنية بالمعادن والنفط والغاز الطبيعي. هذا المنظر كان نقطة التحول لدى المتسلق الأمريكي "غريغ مورتينسون Greg Mortenson" الذي فشل في تسلق جبل "K2" (إحدى جبال سلسة كاراكورامKarakorum ) عام 1993. فوعد رئيس القرية بأن يبني لهم مدرسة. وقد تم تشييد المدرسة بالإضافة لبناء جسرعلى ضفة نهر برالدو لنقل المواد من قِبل غريغ وجميع أبناء القرية، بعد أن استطاع غريغ أن يحصل على تبرع سخيّ ($ 22,000) من المهندس "Hoerni" الرائد في صناعة السيليكون. وقبل وفاته، أسس المهندس "Hoerni" جمعية آسيا الوسطى ((CAI برئاسة غريغ. وخلال عشر سنوات، استطاعت هذه الجمعية - بمساعدة غريغ وفريق عمل في بالتيستان (إحدى المناطق الحدودية لباكستان) - بناء وتجهيز قرابة 40 مدرسة في قرى المناطق الحدودية للباكستان مع الهند والصين وأفغانستان ودفع أجور بعض مدرسيها (Three Cups of Tea for G. Mortenson & D. Relin).
بينما في الأردنّ، كانت المدارس موجودة قبل تأسيس الإمارة (عام 1921) ومن أقدمها المدرسة الرشدية في إربد والكرك (1899) ومدرسة السلط الثانوية (1918). وفي عام 2024، فاق عدد المدارس في الأردن 7580 مدرسة (4083 مدرسة حكومية و3500 مدرسة خاصة) بالرغم من شُح الموارد مقارنة مع الدول الأخرى سواء النامية والمتقدمة. إذ يبلغ معدل التعلّم في الأردنّ 98.4% مقارنة ﺑِ 99% في الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية (World Population Review, 2025). وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يعكس مدى اهتمام الأردن بالتعليم. وبالتالي، ليس مقبولاً أن يبررَ طالبٌ جامعيّ ضعف لغته الإنجليزية بقوله "كان الأستاذُ غائباً معظم السنة"! فهذا ليس عذراً مقبولاً خصوصاً في وقتنا الحاضر. فمَن أراد العلم استطاع الحصول عليه ولو في الصين. وبالتالي، كانت إجابتي للطالب العشريني بأنّ الجامعة الأردنية تقدم الخدمات اللازمة لمساعدة الطلبة على الإلمام بالعلوم المختلفة كالمكتبة والمحاضرات الالكترونية المجانيّة، بالإضافة لتوفر وسائل التعلم الاكتروني التي باتت متاحة للجميع وبأسعار معقولة. وأضفت "بأن أبناء البتراء (ذوي الدخل المحدود جداً) يجيدون الكلام بأكثر من لغة أجنبية كالانجليزية والفرنسية والألمانية والاسبانية ... وغيرها، وذلك عن طريق الحوار مع السيّاح الأجانب". كذلك قصصت عليه باختصار قصة جَدي مع العِلم والتي سبق ذِكرُها!
رسالة إلى وزراتيّ التربية والتعليم والتعليم العالي
في النهاية هناك عتبٌ على خريجي مدارس وجامعات اليوم، إذ أنه ليس مستوى اللغة الإنجليزية ضعيف فحسب، بل مستوى اللغة العربية أيضاً! فمثلاً كتب أحد الطلاب كلمة "الإسغاء" بدل "الإصغاء" وكتب آخر "sit rules" وهو يقصد "set rules". بالإضافة إلى أن "خطّ" جميع الطلاب سيء جداً وأحياناً غير مقروء ولا مفهوم. قد يكون استخدام الهواتف الذكيّة سبباً لهذ الضعف لأن هذه الأجهزة تحتوي على خاصية تصحيح الكتابة. لكن السؤال هو لماذا لا يرى الطالب فائدة في ضرورة إلمامه باللغة العربية بالإضافة للغة الانجليزية على الرغم من توفر الوسائل اللازمة في مدارس وجامعات الأردن، بالإضافة للتطبيقات المتاحة عبرالانترنت وعلى الهاتف الذكيّ؟ ولماذا طالب اليوم ليس لديه اهتمامٌ بالعِلم والتعلّم وزيادة ثقافته؟ فللأسف ثقافة الفرد عن الأردن ضعيفة جداً، إذ في إحدى الفيديوهات على الانستغرام، سأل أحدهم سيدة من الحضورعن جنسيتها وبماذا يشتهر بلدها. فأجابت السيدة بأنها من الأردن والذي يشتهر بالبتراء فقط. مما أثار سخرية المذيع الذي علّق بأنها تتكلم عن شيء منذ آلاف السنين! فلماذ هذا الجهل عنّ الأردنّ؟ حيث يشتهر الأردنّ بانتاج الفوسفات والبوتاس والصخر الزيتي، والسياحة العلاجية بالإضافة لبعض المنتجات الصناعية والدوائية والغذائية التي يتم تصديرها كالتمرالمجهول والخضاروالفواكة وزيت الزيتون. فهل انخفضت نوعيّة التعليم المقدمة للطلبة في المرحلة المدرسية، لأن الطالب في الجامعة الأردنيّة يدرس مادتي اللغة العربية والانجليزية والتي تركز على أساليب الاتصال والتواصل؟ أمّ هل هو شعورالطالب بعدم المبالاة بتعَلُمِ ما ينقصه؟ وإذا كان كذلك، فلماذا هذا الشعور؟ فعلى وزراة التربية والتعليم إذاً معرفة "مَربَط الفرَس" ليتم حلّ المشكلة لأنّ معرفة السبب هيَ أساسُ حلّ أيّ مشكلة! كما أنه برأيي يجب أنّ يتم إعادة استخدام "كُرّاسة الخطّ" في المدارس، والتأكيد على وجود حصة مكتبة حيث ستعير الطالب كتاب (قصة مثلا) ويقرأها خلال أسبوع ويقوم بتقديم تلخيص عنها شفوي أو كتابي قبل أن ستبدله بكتاب آخر.

د. تمارا يوسف سليمان الموسى
قسم التغذية والتصنيع الغذائي – الجامعة الأردنية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد