نوبل السلام وحدأة الحرب

mainThumb

13-10-2025 09:23 AM

الأرجح أنّ اللجنة النرويجية، التي تتولى سنوياً منح جائزة نوبل للسلام، وجدت صعوبات بالغة في وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على قدم المساواة مع رؤساء أمريكا السابقين ممّن فازوا بها: تيودور روزفلت، 1906؛ وودرو ولسن، 1919؛ جيمي كارتر، 2002؛ وباراك أوباما، 2009. ليس أقلّ ترجيحاً أنّ سيد البيت الأبيض الحالي لم يمتلك، في ناظر عجائز أوسلو، أوراق اعتماد كافية تقرّبه من مجرمي حرب وإرهابيين وأوغاد موصوفين ومنظمات دولية شريكة معهم ومتواطئة، أمثال مناحيم بيغن، 1978؛ وإسحق رابين/ شمعون بيريس، 1994؛ وهنري كيسنجر، 1973؛ وإيلي فيزل، 1986؛ والاتحاد الأوروبي، 2012…
لكنّ اللجنة النروجية لم تجد أية صعوبة، بل على العكس لعلها جنحت إلى ما يقترب من الاستمتاع بتحقير الشعوب وابتذال معنى مفردات سامية من طراز «الديمقراطية» و»المعارضة»؛ فمنحت جائزة السلام للعام الحالي 2025 إلى الفنزويلية ماريا كورينا ماشادو؛ بسبب «عملها الدؤوب في تعزيز الحقوق الديمقراطية لشعب فنزويلا، ونضالها من أجل تحقيق انتقال عادل وسلمي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية». تتمة الحيثيات لا تخرج عن هذه اللغة التعميمية الغائمة، التي لا تصمد برهة واحدة أمام التدقيق الأبسط في متاع ثقيل بغيض تحمله ماشادو على كتفيها، ولا يفيد إلا نقائض مزاعم النضال من أجل الديمقراطية والانتقال السلمي.
فلا عجب، أوّلاً، ألا تتأخر الفائزة في إهداء الجائزة إلى الرئيس الأمريكي عاثر الحظّ، رغم أنّ البيت الأبيض استبقها فوبّخ اللجنة النروجية لأنها «غلّبت السياسة على السلام»؛ وكأنّ ترامب أقرب إلى دالاي لاما منه إلى اليانكي الذي يحكم، للمرّة الثانية، القوّة الكونية/ النووية الأعظم؛ أو كأنّ ماشادو هي التجسيد الحيّ للسياسة، ليس في فنزويلا وحدها، أو في قارّة أمريكا اللاتينية، بل في أربع رياح الأرض.
ولا غرابة في أن يكون حزب «الليكود» الإسرائيلي، أو الأجنحة الأشدّ عنصرية وفاشية بين تياراته أساساً، قد حصد ما يعادل حصة النصف من جائزة نوبل للسلام 2025؛ بالنظر إلى أنّ ماشادو سبق أن عقدت توأمة سياسية وعقائدية بين التجمع الذي تقوده في فنزويلا، وبين الحزب الصهيوني وليد زئيف جابوتنسكي الذي حذّر ألبرت أينشتاين وحنة أرندت من أنه «أشد الظواهر السياسية مثاراً للقلق في وقتنا الراهن». وخلال سائر جرائم الحرب التي أمر بنيامين نتنياهو بارتكابها على امتداد أكثر من 730 يوماً من الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، ظلت ماشادو تغرّد بتأييد دولة الاحتلال؛ لأنّ «نضال فنزويلا هو نضال إسرائيل»، ودولة الاحتلال هي «حليف الحرّية الصادق».
والطامة لا تقتصر على هذا الولع الليكودي لدى ماشادو، الذي بلغ درجة الولاء والتأييد الأعمى وتجميل جرائم الحرب؛ إذ أنّ اللجنة النروجية التي منحت جائزة «السلام» إلى بيغن ورابين وبيريس، لن تجد حرجاً في المثابرة على النهج ذاته فتذهب بها إلى شريكة لهؤلاء في فنزويلا. ذلك لأنّ المصائب الأدهى لحاملة غصن الزيتون هذه إنما وقعت في بلدها ذاته، حين جردتها المحكمة العليا من حقّ الترشيح للوظائف العامة بموجب الدستور، لأنها في سنة 2002 تخلت عن جنسيتها وقبلت وظيفة دبلوماسية لصالح حكومة بناما، كي تتمكن من المرافعة ضدّ بلدها أمام «منظمة الدول الأمريكية»؛ بما يعنيه ذلك من انخراط صريح في حملات واشنطن لتأثيم نظام الحكم في كاراكاس.
وكيف حدث أنّ سيدة مناضلة «من أجل تحقيق انتقال عادل وسلمي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية»، كما أعلن عجائز أوسلو، سبق لها في سنة 2014 أن أيدت محاولة انقلابية صريحة، غير شرعية، لإسقاط حكومة هوغو شافيز؛ وشاركت في التوقيع على مرسوم بإقامة حكومة عاصية، قصيرة الأمد. وأياً كانت الأسباب الوجيهة الداعية إلى معارضة سلطة شافيز، الدكتاتورية في اعتبارات عديدة، فإنّ الشروع في انتقال انقلابي للسلطة يصعب أن يستحق صفة النضال السلمي. هذا عدا عن أنّ داعية حقوق وطنية وإنسانية في بلدها ليست الشخصية التي تحضّ، جهاراً نهاراً، على تدخل عسكري أمريكي في بلادها؛ ولا تكفّ عن تكثيف الاجتماعات مع لجان الكونغرس المختلفة للمطالبة بفرض عقوبات اقتصادية، من المؤكد أنها لن تُسقط نظام نيكولاس مادورو بقدر ما تُلحق الأذى الشديد بالشعب الفنزويلي، والفئات الأشدّ فقراً بين أبنائه خصوصاً.
وللمرء أن يدع جانباً آراء ماشادو السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالغة التطابق مع موجات اليمين المتطرف والانعزالي والعنصري التي وصلت إلى أمريكا اللاتينية عبر بوّابات غربية متعددة؛ أو حتى الانتماء عقائدياً إلى النيو ـ ليبرالية المتوحشة، والتآمر على الثروات النفطية في بلدها، والتحريض (سرّاً أحياناً، وعلانية حين تكون في واشنطن) على خصخصة قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة. من عادة جائزة السلام عدم التدقيق في «الفلسفات» الرأسمالية وعتاة اقتصاد السوق، فلا جديد على هذا الصعيد؛ ولكن كيف فاتت على عجائز أوسلو هذه التفاصيل التي تستوجب استبعاد ماشادو عن جائزة يُفترض أنها تعزز السلم الأهلي أوّلاً، قبل السلام العالمي؟
سؤال قد تكمن بعض إجابته في أنّ مانحي الجائزة حرصوا على إرضاء ترامب، عن طريق منحها إلى امرأة من أتباعه الخلّص؛ وبالتالي استوى عندهم أنها أقرب إلى حدأة حرب منها إلى حمامة سلام!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد