ماذا لو انتبهت «نُوبل» لعبقريات غزّة

mainThumb

15-10-2025 10:10 AM

ما يدهشني في الروائية الفرنسية آني إيرنو Annie Ernaux. التي حازت جائزة نوبل (2022)، صرختها القوية في وجه الطغيان والمظالم المسلطة على الشعوب. لم تمنعها الجائزة من قول ما تؤمن به قبل نوبل وبعدها؛ فقد ظلت وفية لقناعاتها الثقافية والسياسية. في اليوم الموالي لفوزها بجائزة نوبل، لم تتردد لحظة واحدة في النزول إلى الشارع مع العمال المضربين الرافضين لقانون التقاعد الجديد الذي يمتص طاقتهم كلها. صرختها الأعظم مؤخراً كانت موقفها الجريء والواضح من الإبادة الجماعية والجريمة ضد الإنسانية، والتجويع المبرمج في غزة المحطمة كلياً. لم تتوان ثانية واحدة في فضح الآلة الصهيونية المدمرة لكل عنصر حضاري لغزة بكلمات لا تحتمل أي صمت.
هذه المقدمة السريعة لأقول إن أشد ما يخيفني اليوم هو صمت الكثير من كتابنا الكبار المقيمين في الخارج. لا صوت لهم مطلقاً يستنكر هذا «الهولوكوست الجديد»؛ فقد ظلوا صامتين وما يزالون، لا تسمع لهم حتى بعض الكلمات الخافتة ولا حتى تنهيدة ألم أمام ما يجري تحت أعينهم. ربما كان السبب خوفاً من «أخطبوط الصهيونية» المتحكم في الأنفاس الإعلامية والمنتشر في كل مكان عن طريق لوبي السايعانيم (المساعدون بالعبرية) الذين يساعدون إسرائيل من خلال شبكات الموساد المبثوثة عبر العالم، بالدعم المادي والمعنوي والمخابراتي أو بتوجيه الرأي العام. وجود الساعيانيم لم يعد فرضية من فرضيات «عقدة» نظرية المؤامرة، ولكنه الحقيقة عينها. يكفي أن نلاحظ كيف نهضوا في وسائل الإعلام في أوروبا كلها وأمريكا بنفس الشعارات ونفس اللغة ونفس التهم الجاهزة ضد كل من رفض الإبادة الجماعية والتجويع وقال رأيه بكل إنسانية «معاداة السامية»، التهمة الجاهزة التي فقدت الكثير من حدتها منذ أن استعملها نتنياهو ضد كل مخالفيه، حتى من اليهود الذين رفضوا حمامات الدم الغزاوي في حرب غير متكافئة ضد بشر عزل (أكثر من ستين ألف شهيد). هل هذا الغول الذي أصبح يتخفى في عقول الكثير من المثقفين العرب، والكتاب تحديداً، هو الذي دفع بالكثيرين منهم إلى الصمت المطبق مخافة أن يوضعوا في القوائم السوداء ويحرموا من الجوائز الكبرى، ومنها نوبل؟ مع أن العربي غير محسوب مطلقاً في السياسة كما في الثقافة حتى ولو أعطى للمستحيل شكلاً، على الرغم من أن المبدع العربي، تاريخياً، منح الثقافة العالمية ما يرفعها إلى الأعلى. وتلك سردية أخرى طمرتها العدمية الغربية الاستعمارية. طبعاً، لنوبل وغيرها من الجوائز العالمية الكبيرة خياراتها، ولها الحق في أن تراهن على «الأحصنة»، لكني أعتقد أن لا أحد يحترم هذا النوع الذليل من البشر الذي يبيع ويشتري بحسب المواسم والضمانات. أكثر من هذا كله، أي جائزة يُخَافُ عليها أمام هولوكوست جديد يدور ليس في المحتشدات المغلقة ولكن على المكشوف، وكأننا جزء من الجريمة العامة لأننا نرى ولا نستطيع أن نفعل شيئاً للفلسطيني الغزاوي الذي أصبح حطباً أو طعماً للكلاب الجائعة. لا يتعلق الأمر هذه المرة باليهودي الذي نقل بالقطارات نحو غرف الغاز والمحارق، ولكن ابن الأرض، الفلسطيني الأعزل، الهارب من الموت إلى الموت؟ أي جائزة تساوي صرخة امرأة مكلومة في كيانها الكلي وهي ترى أبناءها يموتون أمامها الواحد تلو الآخر حرقاً أو تمزقاً أو تحت الردم؟ تجمعهم قطعة قطعة لتمنحهم جسداً كانت تقبله كل صباح قبل الذهاب للعمل أو إلى المدرسة؟ أي جائزة نخاف من تضييعها عندما يشتاق الفلسطيني الطيب إلى حفنة ماء يروي بها عطشاً مزمناً؟

ماذا لو عدنا إلى الحلم الطفولي الأصدق وتخيلنا إنسانية أخرى غير هذه؟ ألم يكن من الأجدر لنوبل أن تمنح جوائزها لغزة؟ يبدو الأمر خرافياً، وهو كذلك. لو توفر فقط حد من الإنسانية والذكاء والتاريخ لمنحت جائزة نوبل للسلام لمدينة غزة المدافعة عما تبقى من إنسانية ضد همجية القرون الوسطى الغربية. كان على نوبل الإصغاء بشكل استثنائي إلى شيء غير مسبوق، إلى مدينة تباد وبشر يُحرقون أحياء، قبل أن تنحني عند قدميها المحروقتين. ربما خفف ذلك من محنة اكتشاف نوبل للمتفجرات التي أبادت مدناً بكاملها بسببه. يوميات غزة الدامية أفرزت رجالاً يستحقون نوبل بامتياز، بسبب معاناتهم وإنجازاتهم أيضاً. أكثر من طبيب غزاوي يستحقها بجدارة لما قاموا به من محاولات يائسة للإنقاذ وهم تحت القصف، فجعلوا من مستشفياتهم أمكنة للحياة والأمل سواء بمستشفى الإندونيسي، ومستشفى العودة والمعمداني، ومستشفى كمال عدوان؛ الطبيب همام اللوح الذي رفض المغادرة حتى استشهاده، والطبيب أبو سليمى في مستشفى الشفاء، في قلب مخيم الشاطئ، رهانه الأوحد أن يمنح الأطفال بعض الراحة، في ظل نقص حاد في الموارد الطبية، سجن في اجتياح 23 نوفمبر 2023 لـ «مجمع الشفاء» واعتقل بتهمة استخدام المستشفى لأهداف عسكرية. وطبيب العظام عدنان البرش الذي ظل يؤدي عمله تحت القصف في مستشفى العودة، قبل أن يؤخذ إلى سجن عوفر في الضفة الغربية، ويستشهد هناك تحت التعذيب في 19 أبريل 2023. ثم أبو صفية، الذي واجه دبابات الاحتلال بصدر عار، في مستشفى كمال عدوان؛ كان يديره على الرغم من التهديدات اليومية. في اجتياح 28 ديسمبر 2024 تم اعتقاله وتدمير المستشفى الذي شكل له فقدانه أكبر مأساة من فقدان ابنه تحت القصف. الدكتورة آلاء النجار، الأيقونة الطبية التي فقدت أبناءها التسعة ولاحقاً زوجها، تستحق من نوبل أن تقبّل رجليها لعملها وصبرها في قسم الأطفال، في مستشفى ناصر في خان يونس، وهي ترقع أشلاء الضحايا لتفاجأ ببقايا أبنائها؟ ماذا لو فكرت نوبل بمنح جائزة الفيزياء للطفل حسام العطار أو نيوتن غزة؛ صحيح مجرد طفل ذكي، لم يكتشف البارود، كان مثل نيوتن لا ينتظر تفاحة تذكره بالجاذبية ولكن نزول القنابل على البناية المهدمة التي التصقت بها خيمة أهله، وتعيش في ظلام دامس: استعمل كل مادته الرمادية وجمع الأسلاك والبطاريات الفارغة ونصب شبكة كهربائية ومروحيتين، وحده كان يعرف سرها، وأضاء خياماً كثيرة كانت ترزح تحت الظلمة. في البداية، أخفق كما توماس أديسون قبل أن يضيء المصباح، ثم المصابيح. الأدب لم يفقد أبطاله في غزة، ومنهم رفعت العرعير، ابن حي الشجاعية، الأكاديمي والشاعر قبل أن يُغتال في غارة جوية. وصف اللحظات الأخيرة عن طريق منصة إيكس: «المبنى يهتز. الحطام والشظايا تضرب الجدران وتتطاير في الشوارع. إسرائيل لم توقف قصفها». قبل استشهاده قال لأحد أصدقائه: «مازلت أبحث عن النت لأقول، وعن الخبز لأستمر». هو صاحب مشروع نحن لسنا أرقاماً، الذي كان هدفه تكوين ذاكرة جمعية وسرد قصص الضحايا. عندما سئل عن هجومات 7 أكتوبر، قال بلا تردد: «اقرأوا انتفاضة الحي اليهودي في غيتو وارسو، وستفهمون». كان يقصد المقاومة اليهودية ضد الترحيل نحو المحتشدات ومعسكرات الإبادة، في سنة 1943. جمعوا الأسلحة سراً عن طريق التهريب وقاموا باستماتة. هو أيضاً صاحب كتاب «غزة تنتفض عبر الكتابة « Gaza Writers Back، مجموعة قصص باللغة الإنجليزية لأطفال تحت الحصار.

كان يمكن لنوبل أن تكون هذه السنة حالة استثناء عالية الإنسانية، وتمنح مكتشف الديناميت والمتفجرات، ألفريد برنهارد نوبل، إمكانية تنفس هواء غير ملوث في قبره، لو اختارت هذا المسلك الحالم، لكنها لم تفعل، ولن تفعل أبداً في ظل ديستوبيا تتحكم فيها الصهيونية العالمية بكل وسائلها الفتاكة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد