جريمة على شاطئ العشّاق

جريمة على شاطئ العشّاق

25-10-2025 12:34 AM

المقــدمــة

 "أحيانًا، يكون البحر شاهدًا صامتًا... على أكثر الحكايات وجعًا."

في كلّ مدينةٍ هناك شاطئ...
لكن ليس كلّ شاطئٍ يُحبّه العشّاق،
وليس كلّ موجةٍ تُغنّي للحب.

على ذلك الشاطئ الذي أطلقوا عليه شاطئ العشّاق،
كانت القبلات تُودّع الموج،
والأسرار تُدفن تحت الرمال.
فما بين هدير البحر ووشوشات الغروب،
كانت هناك أنفاسٌ تتراقص على الحافة بين الحياة والموت.

لم يكن أحدٌ يعلم أن البحر الذي شهد آلاف العهود والاعترافات —
سيشهد ذات مساءٍ على جريمةٍ تُغيّر كلّ شيء.

جريمةٍ لا تبدأ عند الطلقة الأولى،
بل عند النية التي تنبت في القلب كسمٍّ بطيء.
جريمةٍ كتبتها الأقدار على صفحة الماء،
وغسلتها الأمواج دون أن تمحوها من الذاكرة.

وهنا تبدأ الحكاية...
حكاية الدكتورة هدى، التي أضاءت حياتها للآخرين،
لكن أحدهم قرّر أن يُطفئ نورها إلى الأبد.

وحكاية منى، الصديقة التي ظنّت أن الخوف عابرٌ كالغيوم،
فإذا به عاصفةٌ تقتلع جذور الأمان.

وحكاية شاطئٍ كان ملاذًا للعشّاق...
حتى سالت على رماله أول قطرة دم.

كان البحر تلك الليلة هادئًا على غير عادته،
كأنّه يُخفي في أعماقه سرًّا لم يحن وقتُ كشفه بعد.
والنسيم الذي اعتاد أن يحمل أنين العشّاق،
كان هذه المرّة يُصافح الوجوه ببرودٍ غامض،
يوحي بأنّ شيئًا ما ينتظر الانفجار في أيّ لحظة.

في مكانٍ لا ينام فيه الموج،
ولا تصمت فيه القلوب،
ستولد الحكاية...
من بين أنين الغربة ووشوشة الغدر.

الفصل الأول
الممشى

كان الليل يتهادى على البحر بخطواتٍ ناعمة،
والأفق يبتلع آخر خيوط الشفق،
حين بدأت أنوار الممشى تتلألأ كنجومٍ هبطت من السماء لتستقر على صفحة الماء.

كانت منى تسير بخطواتٍ مترددة،
تُصغي إلى وقع أقدامها فوق الأرض الحجرية،
كأنها تسمع نبض قلبها في كل خطوةٍ تؤخّرها «هدى» عن الموعد.

كان الممشى مزدحمًا بالعابرين،
أزواجٌ يسيرون متشابكي الأيدي،
وشبابٌ يركضون في صمتٍ بين صفوف القرم،
ورائحة الملح تختلط بعطر النساء وضحكات الأطفال.
كلّ شيءٍ حولها كان طبيعيًا...
إلا غياب هدى.

تأملت الساعة في معصمها — كانت الثامنة تمامًا —
ثم تنهدت وهي تهمس لنفسها:

> "هدى لا تتأخر أبدًا... ما الذي يشغلها اليوم؟

مرت عشر دقائق، ثم خمس عشرة،
وكل دقيقة كانت تنحت في صدرها خوفًا صغيرًا يكبر.
راحت تُخرج هاتفها، تتصل، ثم تعيد الاتصال،
لكن الخط صامت...
صامتٌ كأن الهاتف نفسه يخشى أن يجيبها.

كانت الريح تعصف بخصلات شعرها وهي تنظر إلى البحر الممتد،
تُحدّث نفسها كمن يهرب من فكرةٍ تزعجه:

> "لا... هدى بخير، ربما نامت، أو انشغلت بأمها المريضة..."

لكنّ الشيطان كان حاضرًا،
يهمس في أذنها بنبرةٍ لزجةٍ ماكرة:

> "وماذا لو لم تكن بخير؟ ماذا لو..."

تجمّد صوتها الداخلي قبل أن يُكمل الجملة،
واختنق صدرها بارتعاشةٍ غامضة.
أمسكت مفاتيح السيارة، صعدت مسرعةً،
وانطلقت عبر الطريق الضيّق المؤدي إلى بيت صديقتها.

كانت الأنوار تتراقص على زجاج السيارة،
والبحر على يسارها كظلٍّ أسودٍ ضخمٍ يتنفس الغموض،
وفي داخلها كانت المعركة مشتعلة بين الخوف والعقل.

حين وصلت إلى المنزل المطلّ على الشاطئ،
كان الصمت يلفّ المكان،
والأضواء خافتة كأنها تخجل من الليل.

نزلت من السيارة بخطواتٍ مضطربة،
تقدّمت نحو الباب وهي تهمس:

> "يا رب، اجعل خوفي بلا سبب..."
ثم طرقت الباب.
طرقت بعنفٍ هذه المرّة.
كأنها تُريد أن تُفرغ خوفها في الخشب المغلق.

فتحت العاملة الباب مذعورة،
لكن منى لم تمهلها لتتحدث،
دفعتها جانبًا واندفعت إلى الداخل،
تجتاز الممر كمن يقتحم جدارًا من الظلال.

وحين فتحت باب الغرفة،
رأت هدى نائمة في عمق السرير،
تغفو بسلامٍ كأن العالم خارج النافذة لا يعنيها.

صرخت بها وهي ترمي المخدّة على وجهها:
– استيقظي يا مجنونة! أنا على وشك إبلاغ الشرطة، وأنتِ في سباتٍ عميق!

فتحت هدى عينيها ببطء، نصفها دهشة ونصفها سخرية،
وقالت بصوتٍ مبحوحٍ:
– ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟ اقتحمتي غرفتي وكأنكِ في مهمة إنقاذ! هل حدث شيء؟ أمي بخير؟!

كانت منى تلهث من فرط التوتر،
ثم قالت وهي تضحك رغم الغضب:
– خالتك بخير، لكنكِ أنتِ المريضة بالكسل! الساعة قاربت التاسعة، لقد أفسدتِ عليّ نزهتي المسائية.

اعتدلت هدى في جلستها،
نظرت إليها بعينين نصف نائمتين وقالت:
– دعيني أنام يا منى، اليوم عطلتي الوحيدة،
مللت أنين المرضى وصراخهم، أريد فقط أن أستمع إلى صمت البحر من نافذتي...

اقتربت منها منى بخفةٍ وضحكةٍ جانبية:
– لا صمت ولا بحر الليلة بدونك، هيا غيّري ملابسك،
الجوّ جميل والبحر كأنه ينتظرنا،
وسأحتسي قهوة خالتك حتى تجهزي، مفهوم؟

لوّحت لها هدى بيدٍ كسولة وقالت مبتسمةً:
– فليشهد البحر أني فعلت كل ما بوسعي لأتهرّب منك.

ضحكت منى وهي تغادر الغرفة،
لكنها لم تكن تعلم أن تلك الضحكة ستكون
آخر ما سمعته هدى من صوتها على قيد الحياة...
يتبع ......



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد