فراشات الضوء المخادع

mainThumb

28-10-2025 10:06 AM

في مذكراتها «إلفيس وأنا» كتبت بريسيلا بريسلي جملة قصيرة هي بمثابة اعتراف مرهق: «كنت الفتاة التي أرادها نجم الروك، ولم أفكر يوماً في الفتاة التي كنتها قبل أن يريدني». بهذه الجملة تبدأ الحكاية التي يعرفها العالم على أنها قصة حبّ أسطورية، لكنها، وفي جوهرها، ليست سوى تجربة ذوبان في الضوء. إلفيس بريسلي ظاهرة صوتية وجسدية وثقافية، شمس فنية لا تُقارب. وعندما اقتربت منه بريسيلا وهي في الرابعة عشرة، لم تكن تعرف أن من يقترب من الشمس كثيراً يفقد ظله. ففي قصر «غراسلاند» عاش الزوجان تلك الحياة التي يظنها الناس مثالية: موسيقى لا تنتهي، سيارات تلمع تحت أضواء الفلاشات، ابتسامات مصنوعة، ولكن خلف كل ذلك كانت هناك فتاة صغيرة تعيش في عالم لا يُشبهها. كانت تتعلم كيف تكون جميلة كما يريدها الآخرون، وتضحك عندما يراها العالم في اللحظة المناسبة للضحك. كتبت في مذكراتها: «كنت أعيش في عالمه؛ ولم يكن لي عالمي الخاص». جملة واحدة كافية لتختصر حياة امرأة أصبحت مجرد انعكاس في مرآة رجل الروك العظيم.
بعد أربعة عقود، جاءت المخرجة صوفيا كوبولا، والتقطت ذلك الصدى الخافت من الكتاب، وصنعت منه فيلماً بارد الضوء، خانق البياض، عنوانه «بريسيلا». لم تصنع فيلماً عن الحب، بل عن الثقب الأسود الذي يبتلع كل شيء. فالإضاءة في الفيلم، كما هو أسلوب صوفيا ساطعة حد التعب، بيضاء كصمت غرف الفنادق، مشبعة بفراغ لا يطاق. كأن كوبولا أرادت أن تقول: «الشهرة لا تضيء، إنها تُبهر فقط. وعندما تنبهر طويلاً، تفقد القدرة على النظر». كتبت إحدى الناقدات البريطانيات: «إن الفيلم ليس عن حضور إلفيس بريسلي، بل عن غيابه؛ عن امرأة اكتشفت أن الحلم ليس بيتا، بل قفص من البلور».
ولو قرأ جاك لاكان هذه المذكرات لقال بهدوئه الماكر: إن بريسيلا لم تحب إلفيس، بل أحبت أن تكون موضوع رغبته. الرغبة، كما يفسرها، ليست في الآخر، بل في رغبة هذا الآخر. إنها رغبة أن تكون مرغوباً، لا أن ترغب أنت. ومن هنا كان سقوط بريسيلا الجميل: حين انصرف عنها، اختفت صورتها. وعندما غادرت، لم تغادر مسكن الرفاهية فقط، بل غادرت اللغة التي كانت تكتب معنى وجودها. بدأت في اكتشاف صوتها الخاص، كأنها ولدت من جديد بعد موت ناعم داخل ذلك السطوع المخيف.
بعد سنوات قليلة من تلك الحكاية، ظهر مشهد آخر من مفارقة النجوم الأمريكية وجه آخر لابنة نجم عظيم آخر هينانسي سيناترا، ابنة فرانك سيناترا، الصوت الذي غنى للعالم عن الحب والفقد والكرامة. التقت نانسي بألفيس في فيلم سبيدوياي عام 1968، وكانت في أوج شهرتها كمغنية وممثلة شابة. كانت العلاقة بينهما قصيرة ومليئة بالاحترام والمغازلة اللطيفة، لكن الصحافة التهمتها كما تلتهم النار شرارة صغيرة. في مقابلات لاحقة قالت نانسي: «كان إلفيس يملك تلك العيون الحالمة التي يسهل أن تضيع فيها». الناس أحبوا الصورة: ابنة نجم عظيم تسقط في مدار نجم أعظم، كأن القدر يعيد صياغة اللعبة القديمة، بنسخة أكثر بريقاً. تقول بعض الروايات إن بريسيلا كانت تشعر بالغيرة من تلك العلاقة العابرة، التي جاءت في فترة الفتور بينهما، كأنها جرح إضافي في زواج بنكهة الضوء. لكن ما يهم هنا ليس حقيقة الغيرة، بل ما تمثله الحكاية: أن العلاقة بين أبناء النجوم تشبه محاولة لترميم نقص قديم، بحث دائم عن شخص يعيش نفس الارتفاع والفراغ في آنٍ واحد.
بعد عقدين، كرر القدر مشهده الغريب في جيل جديد: ابنة بريسيلا وإلفيس: ليزا ماري بريسلي، تقع في حب مايكل جاكسون، نجم البوب الأعظم في زمنه. كان زواجهما أشبه بتحالف الكواكب، صورة أسطورية لحب بين ملك وملكة من موسيقى مختلفة. لكن مثل كل تحالفات الضوء، كان مصيره الاحتراق السريع. بعد الطلاق، قالت ليزا: «كنت أريد إنقاذه، لكنه لم يرغب بالنجاة». وكأنها تكرر مصير أمها دون وعي. إنها لعبة الضوء من جديد؛ تغوي وتبدد.
علم النفس يسمي هذا «تكرار النمط العاطفي عبر الأجيال» المرأة التي فقدت نفسها في ظل نجم تنجب ابنة تقع في ظل نجم آخر. الاثنتان أحبتا الأسطورة ولم تريا الإنسان خلفها. وهذه ليست حكاية نادرة في عالم الفن، بل تبدو مثل قاعدة مألوفة تتكرر بلغة مختلفة كل مرة.
الرسامة الفرنسية فرانسواز جيلو، وصفت حياتها مع بيكاسو: «كل امرأة يحبها يريدها أن تصبح لوحة؛ وأنا رفضت أن أعلق على الجدار!».
وفي رسائل مارلين مونرو إلى آرثر ميلر، نشعر أنها كانت تجلس أمامه وكأنها مشهد سقط سهواً من إحدى رواياته.
الضوء يخلق الأبطال، لكنه أيضاً يصنع الظلال الطويلة التي تبتلع من يقف قريباً منهم.
النجومية، بمعنى ما، هي اختبار قاس للهوية. ربما يغير الضوء الساطع كيمياء النفس، يعلمك كيف أن تُرى أكثر مما أن تكون، ويدخلك في صراع دائم بين صورتك كما يراها الآخرون وصورتك التي لا يراها أحد. في البداية، يمنحك الدفء، ثم يبدأ في سرقة ملامحك ببطء. من يعيش تحت الضوء الكبير يفقد إحساسه بالألوان، فيتعلم أن يحب انعكاسه فقط.
وفي نهاية هذه السلسلة من النساء اللواتي عبرن الضوء وخرجن منه مثخنات باللمعان، تدخل الموسيقى لتغلق الدائرة.
في أغنية تايلور سويفت «أوفيليا» تغني بصوت أقرب إلى الاعتراف: أوفيليا، أنقذيني من نفسي مرة أخرى؛ لقد علمتِني الحب ثم علمتِني السقوط.
تبدو الأغنية كأنها رسالة من بريسيلا إلى ماضيها، ومن ليزا إلى أمها، ومن نانسي إلى نفسها، ومن كل امرأة أحبت رجلاً يضيء أكثر مما يحتمل القلب.
في النهاية، تتشابه الأقدار: وجوه مختلفة، وعصور متباينة، لكن الضوء المخادع واحد. حب يذوب في التوهج الكثيف، وامرأة تحاول أن تنقذ نفسها من صورة صنعتها يد أخرى.
يبقى الدرس الأخير، الهادئ، كأنما يُهمَس في آخر المشهد:
الظل ضرورة للحب، فمن يعيش في السطوع الدائم لا يرى أحداً، لا الآخر، ولا نفسه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد