عروس تمشي فوق الرماد ودمية تبحث عن بيت

عروس تمشي فوق الرماد ودمية تبحث عن بيت

11-12-2025 02:39 AM

لم تكن العروس، التي خرجت بثوبها الأبيض تبحث عن ضوء يسلط عليها.
كانت تبحث عن ظل واحد يشبه قلبها، ظل يخبئ لهب الحرب ويعيد للأنثى شيئاً من صورتها الأولى. خرجت من بين الركام كمن يخرج من جرح، لا كمن يخرج من باب.
إن الثوب الأبيض في المدن المنكوبة يتحوّل إلى لغة. لا يعود فستاناً أو زينة.
يصبح احتجاجاً، صرخة جارحة، عودة إلى الحياة عبر فتحة صغيرة في جدار العدم. تلبسه المرأة كأنها ترتدي قصيدتها الأخيرة. تلبسه لأنها تريد للفرح أن يجد لها مكاناً، لأن القلب لا يحتمل الموت الطويل، ولأن الإنسان حين يرفض نهايته يخرج إلى الشارع بثوبه الأكثر هشاشة.
وحدها كانت قادرة على أن تجعل الخراب يبدو أقل شراسة. ليس لأنها أقوى منه، وإنما لأن في داخلها ما يشبه الغيمة التي لم تتلوث بعد. كانت تمشي فوق حطام البيوت كما لو أنها تمشي فوق ذاكرة. كل حجر تحته اسم، وكل حجر فوقه غياب، وهي تعرف ذلك. مع ذلك، كانت تختار أن تعبر، أن تكمل، أن تضع قدماً أمام أخرى، وأن ترفع رأسها نحو سماء تعرف أنها لم تعد السماء نفسها. العروس التي تعبر الركام لا تشبه عروساً في أي مكان آخر. عيناها تحملان عمرين.. عمر ما قبل الحرب… وعمر ما بعدها.
في الأولى كانت طفلة تحفظ تفاصيل بيتها وتحلم بزينة بسيطة في ليلة زفافها.
وفي الثانية امرأة خرجت من تحت الغبار لتقول إن القلب يستطيع أن يشعل نوراً صغيراً في أكثر الأمكنة ظلمة. تجمع الزمنين في نظرة واحدة، نظرة تعرف الفقد وتعاند السقوط. هناك، في وسط المدينة التي التهمتها النيران، قررت أن تحتفل.
لا لأن الظروف تسمح، ولا لأن الفرح ميسور. السبب أعمق. هو أقرب إلى حدس الأنثى التي تفهم أن الحياة لا تنتظر إذناً كي تستمر. تفهم أن الحب حين يتأخر يعود أكثر صدقاً. وتفهم أن الإنسان لا يملك ترف التأجيل حين يصبح الغد احتمالاً هشّاً. كانت تعلم أن كل شيء من حولها يصرخ. مع ذلك أرادت أن تضع نقطة بيضاء في سطر أسود، نقطة وحدها قادرة على أن تغيّر معنى الجملة.
حين جلست أمام المأذون، كانت تحاول أن تصلح العالم من خلال توقيع صغير.
كانت تصنع للمدينة ذاكرة أخرى، ذاكرة لا تقوم على العد، وإنما على الإضافة.
إضافة حياة، إضافة حب، إضافة خطوة تبعد الموت قليلاً. وعندما وقفت للكاميرا، كانت تعري الحقيقة. العروس التي تتزوج في زمن الحرب لا تحمل فستانها بقدر ما يحملها هو. هو الذي يحفظها من الانهيار. هو الذي يرفعها عن الأرض. هو الذي يجعلها تتذكر أنها امرأة قبل أن تكون رقماً في تقرير الأخبار.
الفستان يتحول إلى خلاص صغير إلى مساحة من الطهارة تحت سماء انطفأت.
كانت تقول بوجه هادئ: إننا نريد أن نعيش.
جملة بسيطة، لكنها أعقد من كل التحليلات السياسية. حين تقولها امرأة ترتدي الأبيض فوق الرماد، فإنها تختصر العالم بكلمتين. تعني أننا نريد يوماً بلا صفارات، بلا فقد، بلا خوف يوقظنا من النوم. تعني أن الحب ليس ترفاً، وإنما ضرورة للبقاء.
في المدن التي تقصف، يتغيّر شكل الفرح. يصير أكثر صمتاً، أكثر عمقاً، أكثر تعلقاً بالروح. والعروس التي اختارت أن تخرج بثوبها فوق الركام لم تكن تحارب الحرب، كانت تحارب اليأس.
حين انطفأت الموسيقى الخافتة من حولها، وحين سجّل العقد، وحين نظر الجميع إليها كأنهم ينظرون إلى معجزة، فهمت المدينة أنها لم تعد مدينة فقط. صارت شاهدة. شاهدة على امرأة قررت أن تمضي نحو مصيرها بثوب أبيض نظيف رغم أن العالم كله مغطى بالغبار. هكذا ينتصر الإنسان. ليس بالأسلحة، وليس بالصراخ. ينتصر حين يحب. ينتصر حين يختار الحياة في زمن الموت.
وتلك العروس فعلت ذلك بالضبط… أعادت تعريف معنى الفرح، وأعادت للمدينة قلباً ينبض، وأثبتت أن الضوء، حتى لو كان ضعيفاً، قادر دائماً على الوصول.

طفلة تركض تحت المطر

كان المطر يهبط بعنف فوق المخيم، كأن السماء قررت أن تختبر قدرة القلوب الصغيرة على التحمل. قطرات تتسارع وتسقط على الخيام الهشة، فتتحول الأرض إلى طين يبتلع الخطوات ويخزن البرد في داخله. وفي زاوية بعيدة، ظهرت طفلة صغيرة، تحمل دميتها المبتلة وتعدو نحو جهة غير واضحة.
كان قماش الخيمة خلفها يرتجف مع كل هبة ريح، كصدر خائف لا يعرف كيف يحمي أبناءه. كانت الطفلة تمشي بحذر فوق الأرض التي خسرت شكلها، تغوص قدمها في الوحل ثم ترتفع بصعوبة، كأن الأرض تحاول أن تشدها إليها وتقول لها إن لا مكان آخر في العالم ينتظرها.
رغم المطر المنهمر فوقها كسهام، كانت الطفلة تضم دميتها بطريقة تشبه الأمهات. ذراعاها الصغيرتان تحتضنان اللعبة التي تسرب إليها الماء حتى صارت ثقيلة، إلا أن الطفلة لم تتركها. شعرت أن هذه الدمية هي الشيء الوحيد الذي يشبه بيتاً في هذا المكان القاسي. كانت تحميها من البلل، كأنها تدرك أن فقدان اللعبة هو أول أشكال الفقد الذي يسرق الطفولة من جذورها.
تحركت من جديد. خطوات صغيرة لكنها صلبة. كانت تركض، وتتعثر، وتعيد الوقوف، وتضم الدمية إلى صدرها كما لو أنها تحمي آخر ذكرى دافئة بقيت لها. الطفلة لم تكن تبحث عن مكان تجفف فيه ثيابها، كانت تبحث عن زاوية تبعدها قليلاً عن قسوة الريح والمطر.
على أطراف المخيم، كان الناس يحاولون ترتيب ما يمكن ترتيبه. أغطية تتساقط من فوق الحبال، أوان تتجمع فيها الأمطار، وأصوات أطفال يرتجفون. ومع ذلك، بقيت الطفلة وحدها في منتصف المشهد، كأنها رسالة مفتوحة إلى العالم، رسالة مختومة بيد صغيرة ودمية مبللة وصمت يعرف طريقه مباشرة إلى القلب.
اقتربت من خيمتها بعد رحلة قصيرة لكنها ثقيلة كعمر كامل. وقفت عند المدخل، تنفست بعمق، ثم دخلت. في الداخل، محاولة صغيرة لإشعال نار خافتة. لهب ضعيف يتلوى من شدة البرد، يحاول أن يكون نوراً ودفئا، لكنه عاجز عن مواجهة شراسة المطر. نظرت الأم إلى طفلتها. لم تسأل أين كانت أو لماذا خرجت. العيون وحدها كانت كافية لفهم كل شيء. كانت تعرف أن طفلتها خرجت لإنقاذ دميتها، لأن الأطفال لا يملكون شيئاً آخر يحافظون عليه في دوامة النزوح. اقتربت منها، وضعت عليها غطاء خفيفاً، ومسحت قطرات المطر عن شعرها بإصبع مرتجف. جلست الطفلة في زاوية الخيمة، وضعت الدمية إلى جانبها، وبدأت تراقب الأرض المملوءة بالماء. كانت خائفة، لكنها لم تظهر خوفها. كانت تشعر بالبرد، لكنها لم تشتك. كانت تعرف أن الشكوى لا تغيّر المطر ولا توقف الريح. في تلك اللحظة، بدا أن العالم كله ينظر إلى هذا المشهد. لا حاجة لصوت، ولا خبرا عاجلا، ولا تحليلا سياسيا.
المشهد كان أقوى من كل ذلك… طفلة تحمل لعبة، وتركض في المطر، وتحاول إنقاذ شيء يخصها في عالم لم يترك لها شيئاً.
نامت الطفلة في الليل قرب دميتها، وغطت نفسها ودميتها بغطاء واحد. نامت وهي تحلم بباب حقيقي، بموقد يشتعل، بحرارة تنتشر في المكان، ببيت لا يتسرب منه المطر. نامت وهي لا تعرف أن العالم خارج الخيمة يواصل دورته المعتادة، من دون أن يشعر أن طفلة صغيرة اضطرت إلى مواجهة السماء وحدها.
وفي الصباح، ستنهض من جديد، وستحمل دميتها، وستخرج إلى الطين نفسه. ستستقبل المطر نفسه، وستحاول أن تفهم لماذا لا يشعر العالم بوجع الأطفال حين ينزل المطر فوق الخيام. ستواصل السير، وستحاول إيجاد مساحة تشبه الحياة، رغم أن كل شيء حولها يبدو مصمماً لإطفاء الطفولة قبل أن تنضج.
ومع ذلك، ستظل الطفلة تمسك بدميتها. وستظل الدمية مبللة. وسيظل المطر ينزل. لكن قلبها سيبقى صامدًا.
قلب صغير يرفض أن يتخلى عن لعبته، لأنه يعرف أن الطفولة تبدأ من شيء بسيط.. شيء نحمله بقوة، ونحمله بكل الحب، حتى لو كان العالم حوله يغرق.

كاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد