سقوط الفاشر .. هل يُكرر السيناريو الليبي

mainThumb

30-10-2025 11:27 AM

توالت الإدانات من كل حدب وصوب خلال اليومين الماضيين لـ«قوات الدعم السريع» نتيجة الانتهاكات الواسعة والمذابح التي ارتكبتها في مدينة الفاشر بعد اقتحامها وانسحاب الجيش السوداني والقوات المشتركة منها. فالتقارير الواردة من المدينة، ومقاطع الفيديو التي وثق بها مسلحو «الدعم السريع» جرائمهم، كشفت عن حجم الانتهاكات ضد المدنيين وعمليات القتل على أسس عرقية وعنصرية، التي لم يسلم منها الشيوخ والنساء والأطفال، والأطباء والممرضات والمرضى والجرحى في المستشفيات.

لم تكن هذه الممارسات جديدة على «الدعم السريع»، فقد ارتكبت مثلها في كل المناطق التي دخلتها سابقاً قبل أن تُطرد منها، من الجزيرة إلى سنار، ومن أم درمان إلى كردفان. كما أن تربصها بالفاشر وسكانها، وتخطيطها للإبادة الجماعية بحقهم، لم يأتِيا مصادفة، بل كانا مرسومين وممنهجين عبر حصار المدينة لنحو 500 يوم، وتجويع أهلها، واستهدافهم بالقصف وبالمسيّرات في معسكرات النزوح.

لكن هذا لم يمنع الصدمة الواسعة إزاء عمليات القتل الممنهج التي انتشرت مشاهدها من الفاشر، ما جعل عدداً كبيراً من الدول والمنظمات الدولية تدين وتشدد على ضرورة حماية المدنيين.

كما انطلقت دعوات، أبرزها من السيناتور جيم ريتش رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، للمطالبة بتصنيف «قوات الدعم السريع» «منظمة إرهابية».

في خضم هذه المأساة والفجيعة المحسوسة على نطاق واسع، تبرز مفارقة أن هناك من يريد إعطاء دور لهذه القوات بكل سجل ممارساتها المعروف، في الترتيبات المستقبلية، سواء بالحديث عن تقسيم السودان واستنساخ السيناريو الليبي، أو باتفاق لوقف الحرب يضمن بالضرورة موقعاً ووجوداً لـ«الدعم السريع» في المشهد القادم، وهذه معضلة كبرى في ظل الهوة العميقة التي تشكلت بين أغلبية السودانيين وهذه القوات.

سقوط الفاشر ستكون له تداعيات كبيرة على مسار الحرب ومآلاتها. فالمدينة كانت آخر معقل للجيش والقوات المشتركة التي تقاتل إلى جانبه في دارفور، وبسقوطها تكون «قوات الدعم السريع» قد بسطت سيطرتها على الإقليم، الذي تعادل مساحته تقريباً ضعف مساحة بريطانيا.

لا تقتصر أهمية الفاشر على مكانتها التاريخية، وقصة صمودها تحت الحصار، بل تمتد إلى موقعها الاستراتيجي لكونها مركز وصل بين شمال ووسط وغرب دارفور، ومعبراً رئيسياً نحو تشاد وليبيا ومصر. وبالسيطرة عليها تصبح كل حدود السودان الغربية مفتوحة لـ«الدعم السريع» والإمدادات القادمة من الخارج. وإذا أضفنا إلى ذلك سيطرة «الدعم السريع» على مدينة بارا الاستراتيجية في شمال كردفان، تتضح خطورة المشهد أكثر، إذ بات في مقدورها تهديد الولايات الشمالية من شمال دارفور، وتهديد الأبيض وأم درمان والخرطوم والنيل الأبيض والجزيرة عبر بوابة بارا. وكل هذه الاحتمالات أشار إليها قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي) في خطابه الأخير قبل أيام، ربما مدفوعاً بطموحات شخصية وخطط مدفوعة من أطراف خارجية. فالرجل منذ انطلاق الحرب كشف عن نياته، عندما أعلن هو وشقيقه عبد الرحيم أنهما يريدان أسر أو قتل البرهان، لا بصفته الشخصية، بل بصفته القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة، وكشفا بذلك عن النية المبيتة في المخطط المرسوم للسيطرة على السلطة وتفكيك الجيش لكي تكون ميليشياتهما هي البديل.

يبقى السؤال: هل يؤدي سقوط الفاشر إلى توسع الحرب، أو إلى انفصال دارفور وتقسيم السودان بتكرار السيناريو الليبي، مثلما ورد على لسان المبعوث الأميركي مسعد بولس في مقابلات عدة أجراها هذا الأسبوع في ضوء التطورات المتسارعة؟

لا أميل إلى مفهوم استنساخ التجارب، فلكل دولة ظروفها وخصوصيتها، ولكل حرب ديناميكياتها. دارفور ليست متجانسة، و«قوات الدعم السريع» لا تمثل أغلبية فيها، بل إن عدداً لا يستهان به من المكونات الإثنية هناك على عداء شديد معها، ولن ينسوا لها جرائمها والإبادة الجماعية التي ارتكبتها في عدد من المناطق بدوافع عرقية وعنصرية.

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إغفال أن مخططات تقسيم السودان قديمة ومعروفة وموثقة، تحدث عنها مسؤولون أميركيون وإسرائيليون سابقون، وأشارت إليها بحوث ودراسات. والمحاولات سوف تستمر، إن لم يكن اليوم فغداً، ما دامت المنطقة كلها على طاولة الإضعاف والتفتيت.

في المشهد الراهن، لا يمكن للجيش السوداني - ومعه القوات المشتركة ومجموعات من المكونات الدارفورية - أن يقف مكتوف الأيدي. سيقاتلون لمنع «الدعم السريع»، المدعومة بمرتزقة أجانب وأطراف خارجية، من إكمال هيمنتها على الإقليم، ولمنع أي مخطط انفصالي، لأن ذلك لن يعني سوى المزيد من الانتهاكات والفوضى وعدم الاستقرار في دارفور وفي الجوار الإقليمي. وتجربة جنوب السودان ما زالت ماثلة أمامنا، إذ أصبح بعد انفصاله محترباً في الداخل، ومصدراً للقلاقل في الجوار.

لذا؛ فإن المرجح أن تشهد الفترة المقبلة احتداماً في المعارك، لا سيما في كردفان التي باتت السيطرة عليها أهم من ذي قبل، وتعني الكثير في مسار الحرب ومآلاتها. أما بالنسبة للمسارات التفاوضية، فقد أصبحت بعد سقوط الفاشر وبارا أكثر تعقيداً، وأقل حظوظاً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد