تركيا وكردها والمستقبل السوري

تركيا وكردها والمستقبل السوري

02-11-2025 12:08 PM

ما الذي يجري بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، أو بكلام أدق بين الدولة التركية العميقة وعبدالله أوجلان؟ ما طبيعة التفاهمات بينهما، وماهي حظوظها وحدودها؟ هل هناك خطة لدى كل طرف أم أن هناك خطة مشتركة قد تم التوافق عليها، وتجري عملية إخراجها على مراحل؛ أو أنه لا توجد أي خطة أصلاً، وإنما مجرد وعود ضبابية غير ملزمة من جهة أصحاب المبادرة على المستوى الرسمي التركي من جهة؛ ومحاولة للتعلق بقشة من أوجلان على أمل الخروج إلى النور وبأي ثمن؟
هل هناك توافق بين سائر مراكز القوى ضمن حزب العمال الكردستاني على خطة أوجلان التي هي أقرب إلى اللّاخطة، وذلك بموجب ما يُقال حولها، وما يدعو إليه أوجلان من أفكار لا يُستشف منها أي ملموس؟
ما هو مصير قسد، وبالتالي ما هي آفاق الاتفاق الذي تم التوافق عليه بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي في العاشر من آذار/مارس المنصرم، وذلك في حال نجاح اتفاق أوجلان مع الدولة العميقة أو اخفاقها؟
أسئلة كثيرة تشغل أذهان المتابعين بدقة لموضوع امكانية انفتاح الدولة التركية على كردها، واحتمالية توصل الطرفين إلى اتفاق يضع حداً لدوامة العنف والآلام والأحزان الممتدة بجذورها إلى بدايات تشكل الدولة التركية الحديثة قبل قرن من الزمان (تم الإعلان عن الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول/اكتوبر 1923)؛ بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. فهذا الموضوع يهم الكرد والترك والعرب في الوقت ذاته. كما أنه يهم القوى الإقليمية التي سعت، وتسعى باستمرار من أجل الاستفادة من اضطراب العلاقة بين الدولة التركية والكرد في الداخل، ومن انعكاسات ذلك الاضطراب على الواقع الإقليمي، لا سيما في كل من العراق وسوريا حيث الوجود الكردي المتفاعل بصورة طبيعية مع ما يجري في تركيا. كما أن القوى الدولية المحورية في ميدان رسم السياسات العالمية، وضبط المعادلات الإقليمية، هي الأخرى مهتمة بهذا الموضوع؛ وتتابعه عن كثب؛ وتحاول الاستثمار فيه ضمن حدود المستطاع. أما الباعث على ذلك فهو الدور المحوري للموضوع الكردي المحوري على مستوى الشرق الأوسط، شأنه في ذلك شأن الموضوع الفلسطيني، هذا مع ضرورة وأهمية الإقرار بالتباينات بين الموضوعين من جهة الحجم والحساسية والمكانة الجيوسياسية.
وفي أجواء الغموض الذي يخيم على هذا الموضوع الهام، وأمام واقع تضارب الأجندات الخاصة بالفاعلين المؤثرين، تتباين التكهنات والآراء وتتعدد؛ وتختلف التفسيرات وتتعارض، حتى تصبح كل التأويلات تمثيلاً لاحتمالات ممكنة غير محسومة التحقّق.
القضية الكردية في تركيا قضية وطنية كبيرة تمتلك بعداً داخلياً على المستوى التركي، وفي الوقت ذاته لها بعد كردي في كل من سوريا والعراق وإيران. وهي في الوقت ذاته موضع اهتمامات وحسابات على دول الإقليم التي عملت وتعمل على توظيفها والاستفادة منها لصالح الاستراتيجيات الخاصة بها، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى إيران وإسرائيل. بالإضافة إلى ما تقدّم، هناك البعد الدولي في هذه القضية التي كانت أصلاً حصيلة الصفقات والاتفاقيات الدولية غير المنصفة بحق الكرد بعد الحرب العالمية الأولى 1918، وفي المقدمة منها اتفاقية لوزان عام 1923. فهي قضية تخص ما بين 20 إلى 25 مليون إنسان وربما أكثر (لا توجد إحصائيات دقيقة)، يشكلون الغالبية في أكثر من 20 ولاية من ولايات تركيا الـ 81. وهناك أعداد كبيرة من الكرد يعيشون في المدن الكبرى خاصة اسطنبول (نحو ثلاثة ملايين). فهذه القضية لا يمكن التعتيم عليها بغربال، أو نفيها عبر انكار وجودها. بل ستظل قضية تستنزف طاقات الترك والكرد، وسائر مكوّنات الشعب التركي، ما لم تعالج بعقلية جديدة تتجاوز منطق المشكلة لتعتمد في المقابل منطق الحل.
الدولة التركية تستطيع في واقعها الحالي فتح الطريق وبقوة أمام حل عادل مستدام، والرئيس رجب طيب اردوغان شخصيا أمامه في ضوء المتغيرات الحاصلة في المنطقة فرصة كبيرة لدفع الأمور نحو النهايات السعيدة خاصة بعد مبادرات دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية التركي، وتجاوب عبدالله اوجلان رئيس حزب العمال الكردستاني الذي أتخذ قرار حل نفسه.
ولكن ما يُسرب من أخبار بشأن اللقاءات والمواقف، وما اُتخذ حتى الآن من خطوات رمزية، لا يرتقي إلى مستوى المطلوب لمعالجة هذه القضية بصورة شاملة لمصلحة تركيا وكردها، ومصلحة الاستقرار في سوريا والعراق، والمنطقة بأسرها.
فقد كان من المنتظر أن تعلن الحكومة التركية تصورها لحل القضية الكردية ليكون أرضية للنقاش بين القوى الكردية السياسية والمجتمعية، والأحزاب السياسية التركية الموجودة في البرلمان، وحتى ضمن الأوساط الأكاديمية والثقافية، فالقضية وطنية تخص الجميع. كما كان من المنتظر أن تقدم الحكومة التركية مقترحا لآلية التعامل مع عناصر حزب العمال الكردستاني الذين من المفروض أن يعودوا بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة إلى منازلهم، ليندمجوا في المجتمع، ويمارسوا نشاطهم الطبيعي بضمانات قانونية، تبيّن حقوقهم وواجباتهم. ولكن الذي حصل في المقابل، هو أنه تم الإعلان عن خروج المسلحين من عناصر حزب العمال الكردستاني من تركيا، وتوجههم إلى إقليم كردستان العراق، وبدا الموضوع وكأنه موضوع تصدير مشكلة لا حلها.
منذ نحو عام والحديث مستمر عن مشروع حل للقضية الكردية في تركيا؛ هذا رغم عدم وجود موقف واضح من جانب الحكومة التركية ولا من جانب أوجلان بخصوص مثل هذا الحل. فالحكومة تتحدث عن تركيا خالية من الإرهاب، وأوجلان يتحدث عن الأمة الديمقراطية، والعلاقات الديمقراطية بين الشعوب الديمقراطية، والقيم الديمقراطية؛ هذا في حين أن الديمقراطية تعاني من تراجعات بنيوية على مستوى أكثر الأنظمة الديمقراطية في العالم. فكيف سيكون هو الحال بالنسبة لمجتمعات وحركات سياسية وحكومات لا تعطي أي اعتبار للقيم الليبرالية التي لا تقوم الديمقراطية إلا بها، وفي المقدمة منها الحقوق الفردية، وحق المواطنين الأفراد في التعبير عن آرائهم بكل حرية في سائر المجالات.
العملية السلمية الجارية اليوم بين الحكومة التركية وكردها، إذا جاز لنا اعتماد هذا التوصيف، ليست الأولى، ولكننا نتمنى أن تكون الأخيرة بالمعنى الإيجابي؛ نريد لها ان تصل إلى النتائج المرجوة. وذلك يستوجب الإعلان عن المبادئ والنوايا بصورة واضحة وصريحة، واتخاذ خطوات تطبيقية ملموسة لتعزيز الثقة المتبادلة. أما اعتماد الأساليب البراغماتية، ومحاولات كسب الوقت لصالح الحسابات الانتخابية والحزبية وحتى الشخصية، فلن يؤدي ذلك إلى المطلوب. وهناك تجارب منذ أيام الرئيس التركي الراحل توركوت أوزال حتى الآن.
إننا لا نفصح عن سر، إذا قلنا إن التشابكات والتعقيدات والمقاربات الحالية لموضوع حزب العمال والموضوع الكردي في تركيا بصورة عامة لها انعكاساتها الواضحة على المفاوضات بين الإدارة السورية وقسد، والموضوع الكردي السوري بصورة عامة، وذلك بناء على التداخلات التي أشرنا إليها بين الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية للقضية الكردية في المنطقة. فمن الملاحظ أن حكومة الشرع وقسد لم يتمكنا حتى الآن من التوصل إلى التوافقات المطلوبة الممكنة حول البنود الواردة في الاتفاق الإطاري العام بينهما. كما أن قسد من ناحيتها لم تتمكن بعد من التحرر من عقدة العلاقة مع حزب العمال الكردستاني رغم تصريحات بعض مسؤوليها بأن قرارهم هو قرار مستقل مبني على قراءتهم للوضع السوري العام، وجدية رغبة الحكومة السورية في الوصول إلى اتفاق لمصلحة الشعب السوري بكل مكوّناته وفي جميع جهاته.
من جهة أخرى، وفي إطار البعد الإقليمي للموضوع السوري بصورة عامة، والكردي السوري على وجه التخصيص؛ لم يعد من الممكن تجاهل التنافس الإسرائيلي التركي حول الدور والنفوذ المستقبلي في سوريا، وباعتبار أن قسد تمتلك قوة عسكرية، وتتحكّم بمساحات واسعة في شمال وشرق سوريا، فمن الطبيعي أن يكون اهتمام الطرفين منصباً على مستقبل هذه القوة، ودورها القادم في مستقبل الدولة السورية.
أما على المستوى الدولي، فرغم أن الروس يعطون رسائل توحي بقدرتهم على التأثير في هذا الموضوع، يبقى القرار الحاسم، على الأرجح، بشأن الترتيبات بين الحكومة السورية وقسد بيد الأمريكيين. هذا في حال عدم تمكن السوريين أنفسهم من التوصل إلى حل عادل واقعي يكون في صالح الشعب والوطن والاستقرار في المنطقة.
*كاتب وأكاديمي سوري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد