جريمة على شاطئ العشّاق .. الفصل الثامن عشر

mainThumb

11-11-2025 12:54 PM

كان مكتب العميد حمد يعجّ بحركة متواصلة تشبه ضجيج خلية نحلٍ مستنفرة؛ ضباط يتنقّلون بين المكاتب، تقارير تتكدس فوق الطاولة، ومكالمات من قيادات الشرطة العليا تتوالى بلا انقطاع، جميعها تطالب بالأجوبة… وتحثّه على الإسراع في القبض على المتورّطين.
وكان العميد، بثباته المعهود، يكرّر جملة واحدة:
"نحن قريبون… والسيطرة الآن في يد فريق التحري."
لكن ما لم يقله للمتصلين هو أن ثمة خيوطًا ما زالت غامضة، وأسئلة تبحث عن ضوء.
وحين هدأ الضجيج قليلًا، استدعى اجتماعًا عاجلًا لكبار ضباط التحري. وقف بينهم بوقفة قائد يعرف أن كل كلمة منه قد تغيّر مسار القضية وقال بصوت يحمل صرامة التجربة:
"وصلنا إلى نقطة مهمة في قضية مقتل عبدالعزيز. لقد تأكدنا أن وفاته نتيجة جرعة سامة مكوّنة من مادتي إيفانول وترامادول. هذه تركيبة قاتلة لا يتعامل معها إلا طبيب أو صيدلاني. وبالتالي… نستبعد منال نهائيًا من لائحة المتهمين. فهي معلمة، ولا تملك أي صلاحية أو معرفة بالمحاليل الطبية."
هزّ الضباط رؤوسهم موافقين، وبعضهم دوّن الملاحظات بشكل سريع.

توقّف العميد لحظة، فتح ملفًا كتب فيه بقلمه ملاحظات حاسمة، ثم قال بصوت أكثر عمقًا:
"الأهم الآن أننا لا نتعامل مع قاتل واحد… بل مع مجموعة. أشخاصٌ اجتمعوا—كلٌ بدوره، صغيرًا كان أو كبيرًا—لإسقاط عبدالعزيز. القتل لم يكن فعلًا منفردًا… بل مخططًا شارك فيه أكثر من يد."
ساد صمت ثقيل داخل القاعة، وكأن الهواء نفسه توقف ينتظر الخطوة التالية.

في الجهة الأخرى من المدينة، كان الدكتور غازي يعيش ليلته الأشد قسوة منذ سنوات. منذ أن بلغه خبر مقتل عبدالعزيز، لم يستطع أن يغمض جفنه. لم يكن القلق من أجل الجريمة بحد ذاتها، بل من أجل ابنته… تلك التي سُلبت فرحتها قبل أن تكتمل.
جلس في مكتبه، يحدّق في العتمة، بينما تعود إلى ذهنه تلك المكالمة التي تلقّاها قبل يوم واحد فقط من مقتل عبدالعزيز. صوت رجل غريب، يتحدث بالإنكليزية بلكنة هندية واضحة، قال له ببرود مقصود:
"لا تفرح بزواج ابنتك… أبعدها عن عبدالعزيز، وإلا فالغد سيحمل لكما أحزانًا كثيرة."
في البداية سخر غازي؛ فهو يعرف خصومه وحساده، واعتاد على التهديدات. لكنه هذه المرّة شعر بوخزة غريبة… فصاحب الصوت لم يكن عربيًا، ولم يكن من بين من يعرفهم.
تساءل بقلق لا يريد الاعتراف به: من هذا؟ وما الذي يريده؟ ولماذا ابنتي؟

ثم انجرف إلى واقعه المرّ. الحقيقة أنه لم يكن يملك حتى حق الرفض. كان عبدالعزيز يضغط عليه بقسوة. فقد أهدر غازي أمواله على طاولات القمار حتى صار مفلسًا، وكل ما بقي له هو القرض البنكي لتطوير المستشفى. وعبدالعزيز كان يمسك الخيوط كلها… لا قرض إلا بزواج ابنته منه.
"وكأن البنك ملك أبيه!" قالها غازي أكثر من مرة وهو يختنق بالغيظ.
والأغرب أن القرض لم يصل رغم كل الوعود. كل الأوراق جاهزة، والإجراءات مكتملة، لكن توقيع رئيس مجلس الإدارة لم يتم. وعبدالعزيز كان يؤكد له:
"لا تقلق… رئيس المجلس في جيبي الصغير."
والآن… عبدالعزيز قُتل، والمحاسب علي فشل في إنهاء الاتفاق مع البنك. وتحوّلت حياة غازي إلى طريق مسدود.
أما اتهام ابنته في قضية القتل… فهو كفيل بتحطيم سمعته وتحويل اسمه إلى عبء.
وفجأة، تزلزل داخله صوت قديم… صوت ليلى، تلك التي أحبها يومًا، وهي تقول له بمرارته التي لم ينسها:
"لعنة طفلي ستلاحقك يا غازي."

امتدت يده ببطء إلى صندوقه الخشبي الصغير، أخرج سيجارته الكوبية، أشعلها، وسحب منها نفسًا طويلاً. ارتعشت أصابعه وهو يضعها على الطاولة ويهمس بصوت متكسّر:
"صدقتِ يا ليلى… يبدو أن لعنتك ولعنة ابنتك لن تتركا خطوي ما حييت."

يتبع…
من المجموعة القصصية (جريمة على شاطئ العشاق)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد