من الطفولة الجائعة إلى الشيخوخة المنفية
في زاويةٍ من زوايا غزة التي أطفأها القصف، ظهرت طفلة.
كانت تحمل دميتها، كما لو كانت تحمل قلبها الصغير، وتمسك كيساً أبيض بيدها الأخرى، تبحث وسط القمامة عن بقايا طعام.
لم تكن تبحث عن الخبز فحسب، كانت تبحث عن معنى الحياة.
الأرض حولها مغطاة بالرماد والغبار، والسيارات تمر بجانبها كأنها تمر فوق جرح مفتوح. هي لا تعرف معنى الحرب، ولا تفهم الأخبار ولا التصريحات، كل ما تعرفه أن معدتها تصرخ، وأن دميتها صامتة، وأن العالم كله يمر من حولها دون أن يلتفت. كانت تنحني، ترفع كيساً، تتأمل ما فيه من فتات وبقايا، ثم تضعه برفق.
عيناها صغيرتان، لكنهما تشبهان نافذتين على وطن مهزوم. تبدو كأنها تبحث عن أمّها بين القمامة، عن حضن يعيد إليها دفء النوم وسلام البراءة.
في يدها دمية صغيرة تحملها كأنها كلّ العالم. الدمية هي البيت الذي هدم، هي الأم التي غابت، هي الأمل الذي لم يقصف بعد.
بينما تمر السيارات بجانبها، يمر ضمير العالم أيضاً ولا يتوقف.
الطفلة التي تمشي حافية على رماد المدينة ليست مشهداً في فيلم ولا عنوانا في نشرة الأخبار، هي جرح يمشي على الأرض. في كل خطوة تخطوها، تهين الإنسانية نفسها من جديد. كم من البيانات أُصدرت، وكم من الشعارات رفعت، وكم من الطفلات مثلهن يفتشن في القمامة عن الحياة؟
أحد المعلقين كتب: «لا طفولة، بل معاناة وكفاح».
لكنه لم ير أن الكفاح هنا ليس اختياراً، إنه اضطرار إلى البقاء في عالم لم يترك للأطفال إلا الرماد. طفلة تجر أكياساً من بقايا الخبز، كما تجر عمرها المرهق قبل أن يبدأ، وتحمل دميتها لأن قلبها يحتاج إلى شيء يتذكر به أنه ما زال طفلا.
في عيونها لمعة غريبة، ليست لمعة الجوع فقط، إنما تلك الشرارة التي تبقى في الإنسان حين يسحق، حين يقرر أن يعيش رغم القسوة. هي تمشي على حافة الهاوية وتبتسم لدميتها، كأنها تقول لها: «لا تخافي، سنجد شيئًا يؤكل».
يقولون إن الأطفال لا يفهمون السياسة، لكن هذه الصغيرة تعرف أكثر من الجميع.
تعرف أن العالم خذلها، أن طفولتها دفنت تحت الركام، وأنها وحدها من يفتش الآن عن بقايا عدالة في كيس بلاستيكي. تحت أقدامها، تتكسر أوراق الخبز اليابسة، فترتفع رائحة تشبه مزيج الخبز والموت. إنها رائحة غزة، رائحة البقاء الذي لم يعد يشبه الحياة. في لحظة عابرة، رفعت الطفلة رأسها ونظرت نحو السماء، كأنها تسألها: «هل هناك خبز في الجنة؟ هل هناك دمى لا تموت»؟
ثم أكملت بحثها بصبر لا يليق إلا بالكبار. تسير وحدها، لكن خلفها يسير جيل كامل من الجياع، يحملون الدمى نفسها، ويبحثون في الأماكن نفسها.
هي ليست طفلة مجهولة، هي ابنة كل بيت فقد خبزه، وكل أم فقدت نومها، وكل وطن فقد ذاكرته. حين تضع في كيسها ما تجده من بقايا، فهي تجمع فتات العالم بأسره، تضع فيه صمت الأمم المتحدة، وعجز السياسيين، ونفاق المتحضرين الذين يخافون على الكلاب الضالة ولا يرون طفلة تبحث عن لقمة بين القمامة. في آخر الصورة، تمشي مبتعدة، دمية على صدرها وكيس في يدها، كأنها توازن بين البراءة والجوع. خطواتها الصغيرة تغرس في الأرض سؤالاً أكبر من أي خطاب: كيف صار الجوع هو المشهد اليومي لطفلة في القرن الحادي والعشرين؟
ربما سيكبر العالم على صمته، وربما ستكبر هي على وجعها، لكن هذه الصورة لن تكبر أبداً. ستظل الطفلة التي بحثت عن الخبز بين النفايات تطاردنا في كل مرآة، تذكرنا أننا جميعاً فقدنا شيئاً من إنسانيتنا حين لم نتوقف عند صرختها الصامتة.
كنت أملك بيوتاً
وأصبحت لاجئاً في الخيام
كان صوته يرتجف، لا من البرد وحده، إنما من ذاكرة امتلأت بالخراب. عجوز فلسطيني يحدث المذيعة، ووراءه سوق يضج بالبشر الذين صاروا مثل الغبار، يتحركون بلا اتجاه، كأنهم يطلبون الحياة في صحراء النسيان. قال وهو يبتسم ابتسامة منقوعةً بالأسى: «كنت أملك بيوتاً… وأصبحت لاجئاً في الخيام».
تلك الجملة لم تكن اعترافاً فردياً بقدر ما كانت مرثيّة وطن بأكمله. كانت بياناً عن قرن من التيه، من النزوح الذي لم ينته، من الخسارات التي تتكرر حتى صارت عادية.
كانت الريح تمر في شعره الأبيض كما تمر الحكايات على أطلالها، وكانت عروقه النافرة في عنقه تشبه جذور الزيتون التي لم تجد أرضاً تستقر فيها. كان يتحدث، وكأن الكلام طريقة للبقاء، وسيلة لإقناع نفسه أن ما جرى له حقيقي وليس كابوساً طويلاً.
قالت له المراسلة بصوت مائل إلى الحنان: كيف مدبرين أموركم في الحياة بالخيام؟ رد بعين تتأرجح بين الكبرياء والانكسار: هينا عايشين في الخيام، إيش بدنا نسوي؟ ثم تنهد، وأضاف كمن يحدث الله لا الكاميرا: زينا زي كل الناس… لكن كنا نملك بيوتاً. البيوت. كلمة كان يلفظها كأنه ينادي أسماء أحبائه الذين ماتوا. البيوت التي «كلياتها في الأرض تسوت»، كما قال.
كأنها سقطت مرة واحدة، لا جدارا بعد جدار إنما سقوط عمودي من الروح إلى الطين. لم يكن في صوته غضب، بل حنين متعب.
وحين سألته الصحافية: «إيش نفسك يا عم؟»، ابتسم وقال: نفسي؟! ثم سكت قليلاً قبل أن يضيف: منفسيش ولا في حاجة، غير أمشي في الشارع وأنا حاسس بأمان. تلك الجملة كانت تلخيصاً للبشر كلّهم حين تسلب منهم بديهيات الحياة. هو لا يطلب بيتاً ولا جداراً، ولا حتى بطانية من «المخزنات» القديمة كما وصفها. يريد فقط أن يمشي دون خوف، أن يكون ظله ملكه، وألا يختبئ من الشمس ولا من القصف ولا من السؤال. كان يتحدث عن قلة المياه والمساعدات، عن البرد الآتي، عن شتاء يلوّح من بعيد ولا يجد من يستعد له. قال وهو يرفع نظره إلى السماء الرمادية: جاي جو الشتا، والله أعلم إيش يصير فينا.
لم يكن يقصد الطقس، بل المصير. كان يتنبأ بما لا يريد أن يراه: أطفال يمرضون، عجائز يرتجفون في الليل، وخيام ترتعد في الريح. لم يكن الرجل يعرف أنه يصوّر لتنشر كلماته على آلاف الشاشات، ولا كان يدرك أن عينيه الحزينتين ستصيران مرآة للعالم الذي اعتاد أن يمر على الأخبار مرور الغفلة.
هو فقط كان يريد أن يحكي، أن يقول شيئاً عن الأيام التي سرقت منه الأرض والسماء، عن البيوت التي تحولت إلى رماد، وعن الشوارع التي امتلأت بالخوف.
في صوته نبرة تشبه صدى البحر البعيد، ذلك البحر الذي كان يوماً نافذة الفلسطيني على الأمل، وصار اليوم جدارًا آخر يحرس الخيام من الهروب، ويعيد إليها صداها كأنها تكلّم نفسها.
الناس من حوله يتزاحمون في السوق، يحملون ما تبقى من الحياة في أكياس بلا وزن. والعجوز وحده يقف كأنّه شاهد القبر الأخير لذاكرة جماعية، ذاكرة لم تعد تحفظ التواريخ.. هي تحفظ فقط عدد الخيام، وعدد الأطفال الذين يموتون بصمت في البرد. في تلك اللحظة، حين رفع المكروفون إلى فمه، كان كمن يرفع شهادة إلى السماء. كل كلمة قالها كانت حجراً في بيت مهدوم، ونبضة من وطن يتنفس بين الركام. وحين قال:
ما استعوَضناش منها ولا بحاجة، كانت «منها» تشير إلى البيوت، لكنها كانت تعني أكثر من ذلك: كانت تعني الأمان، والطفولة، ورائحة الخبز، وصوت الأذان من نافذة لم تعد موجودة. هو لم يكن يروي مأساته فقط… كان يروي حكاية وطن بأكمله صار يعيش في الخيام، وكل خيمة هناك تحمل اسم قرية غابت عن الخارطة. في عينيه كان ظل بيت بعيد في يافا أو المجدل أو غزة القديمة، وفي صوته تنهيدة من جيل أدمن الصبر حتى صار له طعم الهواء. وفي نهاية اللقاء، حين صمت المكروفون، لم يصمت الرجل. ظل يحدق في الفراغ، كأنه يرى بيته في الأفق، بيتاً من ضوء لا تسقطه حرب. ذلك الرجل الذي قال: «كنت أملك بيوتاً وأصبحت لاجئًا في الخيام»، لم يكن يتحدث عن نفسه فحسب، إنما عن كل الذين حملوا مفاتيحهم في جيوب مثقوبة، وعن كل أرض ما زالت تنتظر أقدامهم لتعود حية.
كاتبة لبنانية
انخفاض حاد في أسعار السلع الاستهلاكية في قطاع غزة
ضبط اعتداءات المياه يوفر 31.5 مليون متر مكعب
المنتخب الوطني لكرة القدم يلتقي نظيره التونسي غدا
المعهد القضائي الأردني يحصد المرتبة الأولى عربيا بدرع التميز
أميركا تنهي رسميا التعامل بالسنت بعد قرنين من التداول
وزير الخارجية يجري مباحثات مع نظيره الفيتنامي
الملك يحضر الجلسة الافتتاحية لملتقى الأعمال الأردني - الفيتنامي
أسماء العشر الأوائل للفرع الأدبي من طلبة توجيهي 2007 في قطاع غزة
تهنئة لـــ الدكتور ثائر محمد إبراهيم الملكاوي
معان : إنهاء أعمال صيانة طريق الرصيف الملوكي
سميرات يطلع على مشروعات شركة الانتشار الرقمي
تخفيض مكافآت البلديات يثير غضب الموظفين
الفاشر ترد على سرديات الدعم السريع
تنكة زيت الزيتون إلى ارتفاع والسعر يستقر عند أرقام قياسية .. تفاصيل وفيديو
مدعوون للمقابلات لغايات التعيين في الصحة .. أسماء
الأردن يترقب حالة مطرية نهاية الأسبوع المقبل
جدول السعرات الحرارية في كل جزء من أجزاء الدجاج
الرواد يتحدث عن مناحم الفوسفات ..
مالية الأعيان تناقش السياسات الاقتصادية العامة
مدعوون لاجراء الامتحان التنافسي .. تفاصيل
ارتفاع أسعار الذهب في السوق المحلية السبت
رصد 2 مليون دينار لاستكمال طريق المدينة الجديدة
الصداقة الأردنية الروسية في الأعيان تلتقي السفير الروسي لدى المملكة
تمريض الأردنية تحصل على الاعتماد لـ4 سنوات
الجامعة الأردنية تفوز بكأس فرسان علم السموم
ما هو غاز الأمونيا وما مخاطره الصحية
