حين يُساء فهم تداول السلطة

حين يُساء فهم تداول السلطة

24-12-2025 12:04 AM

التغيير في المواقع الأكاديمية بين المأسسة والارتباك الثقافي
يُعدّ تداول السلطة في المؤسسات الأكاديمية أحد المؤشرات الأساسية على مستوى نضجها المؤسسي وقدرتها على التحديث والتطوير. فالجامعات الحديثة لا تقوم فقط على إنتاج المعرفة، بل على إدارة التغيير بصورة منظمة تضمن الاستمرارية، وتجديد القيادات، وتكريس مبدأ تداول المواقع الأكاديمية بوصفه ممارسة طبيعية لا حدثاً استثنائياً. غير أن الإشكالية في العديد من الجامعات العربية لا تكمن في غياب النصوص الناظمة أو الأنظمة الإدارية، بل في الثقافة التي تُحيط بعملية التغيير، حيث يُنظر إلى تداول المواقع الأكاديمية – سواء في رئاسة الجامعة أو العمادات أو الأقسام – باعتباره إعادة توزيع للسلطة لا إعادة تنظيم للعمل.
يشير تداول السلطة في السياق الأكاديمي إلى انتقال منظم ومدروس للمسؤوليات والصلاحيات بين القيادات الجامعية، ضمن إطار مؤسسي يضمن استمرارية السياسات الأكاديمية والبحثية والإدارية. وهو يختلف جذرياً عن مجرد الانتقال الشكلي للمناصب، إذ يفترض قبولاً مسبقاً بأن المواقع الأكاديمية ليست امتيازات دائمة، بل مواقع مؤقتة تخضع للتقييم والتجديد. غير أن هذا الفهم لا يزال هشاً في كثير من السياقات، حيث ترتبط المواقع الأكاديمية بالأشخاص لا بالوظائف، وتُحمَّل التغييرات أكثر مما تحتمل من دلالات سياسية ونفسية.
في هذا السياق، كثيراً ما يُستقبل أي تغيير في المواقع الأكاديمية العليا داخل الجامعة بوصفه لحظة قطيعة لا استمرارية، ويُسقط على الجامعة منطق الصراع الذي يميز المجال السياسي العام. فتتراجع روح التعاون، وتظهر أشكال من المقاومة الصامتة، ويجري التعامل مع القيادات الجديدة بوصفها قوى بديلة لا امتداداً مؤسسياً. ولا تعبّر هذه السلوكيات عن خلافات مهنية أو أكاديمية بقدر ما تعبّر عن ارتباك ثقافي في فهم معنى تداول السلطة وحدودها داخل المؤسسة الجامعية.
والمفارقة أن هذه الممارسات تحدث داخل فضاء يُفترض أنه الأكثر قدرة على استيعاب مفاهيم الحداثة المؤسسية والعقلانية الإدارية. فالجامعة التي تُدرّس نظريات الحوكمة الرشيدة، وتداول السلطة، والمأسسة، قد تجد نفسها عاجزة عن تطبيق هذه المبادئ عند أول اختبار عملي يتمثل في تغيير القيادات الأكاديمية. وهنا لا يحدث صراع علني، بل تتشكّل حالة من التعطيل الناعم، حيث لا تُرفض القرارات بشكل مباشر، لكنها تُفرَّغ من مضمونها بفعل البطء والتردد وغياب المبادرة.
ينعكس هذا النمط من التعامل مع تداول المواقع الأكاديمية سلباً على الأداء الجامعي، إذ يُضعف القدرة على التخطيط بعيد المدى، ويؤثر في جودة اتخاذ القرار، ويحدّ من تجديد النخب الأكاديمية والإدارية. كما يساهم في تكريس أنماط تقليدية من الإدارة، ويحول دون بناء ثقافة مؤسسية قادرة على مواجهة التحديات المتسارعة التي تواجه التعليم العالي، سواء على مستوى التنافسية، أو البحث العلمي، أو جودة التعليم.
إن جوهر الإشكالية لا يكمن في التغيير بحد ذاته، بل في المعنى الثقافي المسقَط على تداول السلطة داخل الجامعة. فحين يُنظر إلى المواقع الأكاديمية باعتبارها مواقع نفوذ لا مواقع خدمة أكاديمية، يصبح التغيير مصدر قلق لا فرصة للتطوير، وتتحول المأسسة إلى شعار لا ممارسة. ولا يمكن تجاوز هذا الواقع إلا عبر ترسيخ ثقافة جامعية جديدة ترى في تداول المواقع الأكاديمية ممارسة طبيعية وضرورية، وتفصل بين الموقع والشخص، وتعيد تعريف القيادة الأكاديمية بوصفها وظيفة مؤقتة تخضع للمساءلة والتجديد، بما يتيح للجامعة أن تتحول إلى نموذج فعلي للتداول الرشيد، لا مجرد فضاء يُعيد إنتاج الإشكاليات ذاتها التي يعاني منها المجال العام.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد