(2011 - 2015) حراكات خارج منطق التاريخ - 3

mainThumb

28-01-2015 01:57 PM

لم يتعايش الإنسان مع قيم الحضارة بتناغم وانسجام ,و لم نلحظ تغيراً ملموساً متجاوباً في سلوك الإنسان في تعاملاته اليومية مع أقرانه من البشر.

وعلى الرغم من كل ما تشهده المجتمعات الإنسانية من الزخم الحضاري الذي صنعته مجريات التغيير الحتمية  في المجالات التقنية والمعرفية واستمراره وتسارع وتائره وتعدد ميادين منجزاته الذي تصدره الفكر العلمي ومرفقاته من الدراسات والبحوث النظرية والتطبيقية,وبني على منهجية تفكير متفتح منتظمة وأفق واسع من المعطيات التي تستلهم كيف تتوالد الأفكار,وتستوعب أساليب الدراسة الموضوعية لكل فكرة جديدة دون تحفظ أو تجاهل لما تعنيه ولِما يمكن أن يتولد عنها من مجموعة فِكَر لا تتماهى مع تراث قائم أو فكر سائد أو معتقد معمول به,ولا يفوتنا أنْ نشير إلى تتبع الملاحطات التي لعبت فيها الصدفة دوراً مهماً,والاستفادة من أحداث الصدفة لا تتحقق دون وجود خلفية ذهنية متفتحة على العلم ومعارفه,متقبلة للتغير وتجديداته البناءة ,مؤهلة بالعقلية ذات الرؤية المستقبلية لكل معلومة أو منتج ثقافي من مختلف المصادر وفي مختلف الموضوعات.

ويبدو لي أن السبب الذي يمكن أن يفسر ها النوع من اللاتناغم واللاإنسجام يكمن في أن طباع الإنسان ليست مسألة ثقافية تتغير باضطراد مع ارتفاع مستواه الثقافي.

أي أن العلاقة بين ثقافة الإنسان وبين طباعه,وربما رغباته الغريزية,ليست علاقة طردية,وما زالت من العلاقات التي تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء والدراسة التحليلة العميقة.

لم يتواز ذلك الكم المتراكم من المنجزات الحضارية كله أو يُحدث تغييراً ملحوظاً,أو نمطاً واضح المعالم على طباع الإنسان وعلى طرق تفكيره فيما يدور حوله من أحداث, في علاقاته مع الإنسان,وفي تقبل الواحد من الناس رأياً آخر من غيره من الناس بصدر رحب وأفق ثقافي متمدن,وفي رد فعل الإنسان على فعل يقوم به أخوه الإنسان.

وكأن الواحد من هؤلاء دخل في صندوق وأغلق على نفسه داخله بإحكام,ساداً الأبواب على تيارات التغيير,عاداً ذلك مدعاة تمسك بما نشأ الفرد عيه منذ طفولته بتمسكه بألعابه التي كان يلهو بها بأنانية وفردانية اكتسبها بالبكاء والصراخ كلما لمح أحداً يود مشاركته اللهوبها.ونستذكر هنا حكمة المهاتما غاندي فيما يتعلق بقانون العين بالعين والسن بالسن... الذي ساد مجتمعات عديدة مرت بمستويات حضارية متفاوتة وشروره,وعلى نمطه يمكننا أن نذكر بأن مواجهة العمل الشرير بعمل مثله ومن نوعه أو أشد منه إيذاءً يُعلي من شأن الشرور ويعممها  ويقضي بها على فرص عمل الخير ومنافعه.وعلى قيم التسامح ورقي معانيه ,وسمو نتائجه على ترسيخ سلام المجتمع وتوطين سلمية الأدوات التي يتداولها المواطنون في تعاملاتهم تحت مختلف ظروف الأحداث.وتنوع أسبابها.

الاختلاف بين الأفراد في الرأي وفي الرؤى وفي الأذواق وفي السلوك وفي ردود الأفعال على ما يقع عليهم من فعل في الوقت عينه,وفي مستويات التعليم وفي الذكاء,وفي كل الخصال الإنسانية,هو الأمر الطبيعي الذي كان عليه بني البشر منذ الخليقة وما زالوا.

والاختلاف في وسيلة التعبيرعن هذا الاختلاف بين الناس يعود في شكله وفي شدته وفي رد الفعل عليه إلى مستوى التحضر الذي بلغه كل منهم.وتعارف تراث الاختلاف في المواقف السياسة من القضايا الوطنية في المجتمع على ما تمت تسميته بالمعارضة حيث تتيح التشريعات العصرية حق المواطن في الاعتراض على قرارات الحكومة ومراقبة أنشطتها المناط بها القيام بها بحكم الدستور وما توافقت عليه مكونات المجتمع من تشريعات قانونية وأنظمة مؤسساتية يحترمها الجميع,وعلى تصرف شخوصها وعلى التزام عملها التزاماً واعياً في تنفيذ واجباتها بموجب أحكام التشريعات السارية.

ومنحت,في الدول الديمقراطية بشكل واضح وصريح, المؤسسات المدنية حزبية أو جمعية أو نقابية ... حق المراقبة والدعوة إلى محاسبة المقصرين والفاسدين من المسؤولين بغض النظرعن موقعهم أو رتبهم الوظيفية. أو نسبهم الاجتماعي يتم ذلك بوسائل عديدة,بوجود مجالس الأمة من نواب وأعيان,وأحزاب وجماعات مجتمع مدني بوسائل سلمية تشمل مطالبات  بالتظاهر والاعتصام والاعترض والرفض ويتوج كل مظاهر الاعتراض بالحوار المباشر,والحوار بين أطراف مختلفة يشكل في جوهره حلقة من حلقات الربط في بنى مكونات المجتمع و تحصين كيانه والحفاظ على وتائر التنمية والترقي التي ينجزها جهد المجتمع وإنتاجه.

ولهذا فإن الديمقراطية تمثل المفتاح الذهبي المصنع منذ زمن لتوفير بيئة حاضنة لمجتمع الحوار والتفاهم والتوافق,وإضفاء الصيغ الشرعية على المعارضة وعلى حقوقها وعلى أهمية دورها في عملية البناء الاجتماعي – السياسي المتجاوبين مع ضرورات العصر ومنطلقاته في التحضر.

والمعارضة في تجليات معانيها,تيار سلوكي معبر في خطابه عن درجة الوعي الشعبي ومستواه المعرفي,وتجاوب حراكه مع أحداث المجتمع ,وهي ليست مقتصرة  على الشأن السياسي وألاعيبها وإنما تتنوع اهتمامات أعضائها بتنوع قضايا الوطن وقراراته بما من شأنه أن يحسن علاقة الواحد – بالواحد, والحزب – بالحزب,والنقابة – بالنقابة,والجمعية – بالجمعية .... وينشط مشاركة الأغلبية الصامتة ويحفزها على تنشيط دورها,ويحافظ على سلامة البيئة التشريعية والاستثمارية وعلى نظافة البيئةالطبيعية,ويستوعب بالمدركات العقلية توضيح مطالبه وتسبيبها وتجنب أساليب التورية والخداع بالشعارات والهتافات الحماسيةالتي تثير الاضطراب ولا تجلب معها سوى النزاع بين مكونات المجتمع ومؤسساته.

والمعارضة أياً كانت المبادئ التي تنطلق من أسسها مجاميعها ومن طروحاتها نشاطها,لا بد أن تكون معارضة منزهة بالكامل عن الممارسات العنصرية,والتهافت الطائفي, والعنف الجسدي أو اللفظي والشتيمه بالمس بعرض الآخرين وكراماتهم وانتماءاتهم العرقية,والتخويف والترهيب لكل مخالف لهم أو مختلف مع ما يطرحون من آراء وأفكار, وأن تعف المعارضة عن ادعاءات التفوق العرقي أوالإيماني والتمايز التراثي والثقافي بين بني البشر,أي أن تنتقل بالإنسان من قوقعة التعصب والجهل والانغلاق في الأفق إلى واحة الانفتاح على محيطه المحلي والإقليمي والدولي كذلك, والتفهم الواعي والتسامح المقتدر.

ولا يعيب تيارات المعارضة أن ترفض قراراً أو تعارض إجراءً من  قرارات إجراءات الجهات المختصة دون تقديم بديل لما ترفض وتعارض,ولكنها إن فعلت العكس بتقديم البدائل,وتوسيع دائرة الخيارات التي من شأنها تقديم ما هو أفضل وأكثر منفعة عامة,تكون بذلك معارضة مؤهلة للمطالبة بتداول السلطة,وتقديم الكفاءات الأكثر فعالية والأنضج وعياً بموجبات التحضر والمعاصرة.وهناك من يرى أن مقولة المعارضة للمعارضة يعيبهاأنها مجرد ثرثرة كلام لا يخلو من مآرب انتهازية,ومصالح حصرية لا فائدة لها ولا نفع عاماً يُتوقع منها.

لأن الحوار فعالية تواصل راق ووسيلة متحضرة للتفاهم,والتوصل إلى حلول توافقية على قدم المساواة بين أطرافها,والتوافق بصيغه التشاركية,بكل بساطة ممارسة حقوقية إذ من حق كل مواطن أن يشارك في صنع القرارات التي تهمه كما تهم مواطنيه وتمس مصالحه. ويصر علماء الاجنماع ووعلماء السياسة ومفكرو المعاصرة والتحضر أنه لا يجوز إلزام أي مواطن بقرار ينفر منه لآي سبب كان.

والتوافق بين مختلف مكونات المجتمع وأفراده, أداة من أكثر أدوات تعميق معاني المواطنة كفاءة وفاعلية,وأشدها تأثيراً على مشاعر الانتماء الواعي للوطن والدفاع عن قضاياه بالتعاضد والتضامن بين كافة فئات الشعب ومكوناته التعددية.خاصة وأن التعددية واقع متجذر في حياة الإنسان في كل مكان,لا بل في الكائنات والمخلوقات الإلهية كلها.

في واحدة من أبرز تناقضات التاريخ ,أن وعي الإنسان السياسي وتطور قيمه الأخلاقية لم يتماهى أي منهما ولم يرتق إلى أي مستوى من مستويات ارتقاء العلوم والمعارف وتطورهما وتوسعهما وشموليتهما, وتراكم المعلومات الضخم ومرجعيتها العلمية والتاريخية,والكم الهائل من نظريات الأخلاق والعلوم الاجتماعية والسياسية ,عداك عما عمرت به الأديان السماوية والوضعية من مورد لا ينضب من دعوات للسلام والتآخي والتحاب بين البشرونبذ الغضاء والكراهية,وإلى فعل الخير والتصالح مع الذات ومع الآخر,وتجنب دروب الشر والغدر والعدوان والإيذاء والتعالي,والتعفف عن إغراءات الطمع والجشع.والتحذير من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.واستغفاله واستغلاله .

 فقد ظلت البشرية وما زالت تعاني في علاقاتها البينية من الحروب بتبريرات ساذجة,وما زالت العبودية قائمة بأثواب عصرية,وما زال القوي يستغل الضعيف,على مستوى فردي أو جماعة عرقية أو تيار عنصري,أو باستغلال دولة لدولة دول,وترسخت الأزمات الأخلاقية’وانسعت دوائر الفساد وأشكاله.....وأخذت الحروب الداخلية تعيد مآسيها بأشد قساوة, وكأن دروس التاريخ قد تجوزها الوعي الإنساني دون تفكير أو تمحيص.

واختلطت المفاهيم ومعاني المفردات حتى انتفت عنها كل علاقة لها مع قيمها,وتناقضت في استيعاب العقول له,كل يفسرها كما يحلو له وكما يتفق مع أطماعه بجني منافع ذاتية آنية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد