قول على قول (2) - د. سامي عطا حسن

mainThumb

30-08-2015 10:04 PM

وتكملة  لما تم طرحه في المقال الأول أضيف: 
 
الكناية صورة من صور التعبير ، ومظهر من مظاهر البلاغة ، وأسلوب من أساليب البيان ، وغاية لا يقوى على الوصول إليها  إلا بليغ متمرس لَطُفَ طَبعه ، وصَفَت قريحته . ولها عند البلاغيين منزلة عالية ، ومكانة مرموقة ، وبلاغة ( لا يكمل لها إلا الشاعر المُفلق ، والخطيب المِصقَع ..) ( انظر : عبد القاهر الجرجاني : دلائل  الإعجاز : ص 216. )  . أو كما يصفها  الزمخشري: ( ولا ترى بابا في علم البيان أدق ، ولا أرق ، ولا ألطف من هذا الباب .)( الزمخشري ، الكشاف : ج3: ص 365)  . 
 
ولذا فقد كانت الكناية الميدان الفسيح الذي يتسابق فيه البلغاء ، وتتفاوت فيه أقدارهم ، وتتباين فيه منازلهم ، إذ لا يصل إليها إلا  من لَطُفَ طبعه ، وصفت قريحته  ، ولا عجب في هذا ، فهي  واد من أودية البلاغة وطريق جميل من طرق التعبير الفني ... ووسيلة قوية من وسائل التأثير والإقناع ، ولها أثر كبير في تحسين الأسلوب ، وتزيين الفكرة ، فهي من العبارة الأدبية كالدرة اليتيمة في العقد ، وكالزهرة الجميلة في الروضة الفيحاء تضفي عليها جمالا أخاذاً ، وسحراً حلالاً ، وتكسوها رونقا وبهاء ، فتسترعي الانتباه ، وتسترق الأسماع ، وتبهر الألباب ... أما الكناية في القرآن ، فإنها  فوق طاقة  بني الإنسان ، لما فيها من روعة التعبير ، وجمال التصوير ، وألوان الأدب والتهذيب ، ما لا يستقل به بيان ، ولا يدركه إلا من تذوق حلاوة القرآن .. فلا تجد معنى من المعاني في القرآن جاء بهذا الأسلوب الكنائي إلا وفيه نكت بيانية ، وأسرار بلاغية ، ما كانت لتكون لو جاء الأسلوب على حقيقته ، يقول عبد القاهر الجرجاني : ( قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح ، والتعريض أوقع من التصريح ، وأن للاستعارة مزية وفضلا ، وأن المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة ..)( انظر الجرجاني : دلائل الإعجاز : ص 70 – 72. )    
 
ومن يتأمل أسلوب الكناية في القرآن – وكان ممن يتذوق الفصاحة والبيان – يدرك ما تنطوي عليه من لطائف وأسرار  ، ويجد أنها قد اشتملت على كثير من الخصائص والمزايا التي تحقق الغاية منها ، والهدف من ورائها..
 
وحين عُنِي بعض البلاغيـين بحصر فوائد التعبير بالكناية كان من أبرز هذه الفوائد وأكثرها شيوعاً على ألسنتهم : التعبير بألفاظ مستحسنة لا تعافها الأذواق عما يستحيا من ذكره أو يقبح التصريح به من المعاني , أو على حد تعبير المبرد : ( الرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش ، إلى ما يدل على معناه من غيره )( انظر :  الكامل في اللغة والأدب : ج3: ص 6. )
 
في ظل شيوع هذا القول توطدت علاقة الكناية في تراثنا بتلك المعاني , بل إنها كانت تقتصر عليها في بعض المواقف , نجد ذلك واضحاً على سبيل المثال في ترجيح بعضهم للقول بأن التعبير بالإفضاء في قوله عز وجل : ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) [ النساء:21] هو كناية عن الجماع ، لا عن الخلوة الصحيحة , وذلك لأن العرب إنما  تستعمل الكناية فيما يُستَحيا من ذكره , والخلوة لا يُستحيا من ذكرها ،  فلا تحتاج إلى كناية(انظر : الآلوسي : روح المعاني : ج4: ص 244. وابن سنان : سر الفصاحة : ص 193-195.). 
 
وذلك أننا حين نتأمل معاني تلك الألفاظ أو العبارات التي أريد إقحامها في حيز الكناية  ، يتبين لنا  أنها تدور في الأعم الأغلب حول ما يستحيا من ذكره , كالوطء , أو الفرج , أو قضاء الحاجة .. أو ما إلى  ذلك من المعاني التي تردد القول في تراثنا بوجوب الكناية أو حسنها عنها .
وفيما يلي نود أن نتوقف إزاءَ بعض تلك الألفاظ أو العبارات التي سلك بعض البلاغيين معها هذا المسلك المتعسف في التأويل  ، فلنتأمل على سبيل المثال :
1 - قوله تبارك وتعالى :( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍْ قَديِِراً(27))[الأحزاب: 27]
 
لقد ردد بعض البلاغيين القول بأن قوله عز وجل في تلك الآية (وأرضا لم تطئوها) هو كناية عن فروج النساء ونكاحهن ، وقد استحسن يحيى بن حمزة العلوي  ( صاحب كتاب الطراز  ) هذه الكناية قائلاً : ( وهذا من جيد الكناية ونادرها لمطابقتها لقوله تعالى : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) [البقرة :223] والحرث إنما يكون في الأرض ، فلهذا ازدادت رشاقة وحسنا ) (كتاب الطراز ، المجلدالأول : ص406  ).
 
ولعلنا نُحِسُّ بما ينطوي عليه هذا الرأي من تعسف وَلَيٍّ لعنق اللفظ عن معناه المتبادر منه في وضوح، فلفظة الأرض في التعبير القرآني لا تدل على غير معناها الأصلي، وهذا المعنى هو ما فهمه كثير من المفسرين الذين اختلفوا حول تحديد الأرض المعنية بهذا التعبير ، ( فقال السديّ : هى خيبر ، وقال قتادة : كنا نحدث أنها مكة ، وقال الحسن : هي أرض الروم وفارس ، وقال ابن جزي الكلبي : ويحتمل عندي أنه يريد أرض بنى قريظة ؛ لأنه قال أورثكم بالفعل الماضي، وهي التى كانت أخذوها حينئذ ، وأما غيرها من الأرضين فإنما أخذوها بعد ذلك ، فلو أرادها لقال يورثكم ) (انظر : السيوطي : مفحمات الأقران : ص 86. . والزمخشري : الكشاف : ج3: 233. وابن جزي الكلبي : كتاب التسهيل : ج3: ص 136. والبيضاوي : تفسير البيضاوي : ج4: ص 162. وأبو  السعود : تفسير إرشاد العقل السليم : ج7: ص 100. ) .
 
قال في الكشاف : (ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم. ..) (الزمخشري : الكشاف : ج3 : ص 258 .) وقال ابن عاشور : (وقوله { وأرضاً لم تطؤوها } أي: تنزلوا بها غزاةً وهي أرض أُخرى غير أرض قريظة ، وصفت بجملة { لم تَطَؤُوها } أي: لم تمشوا فيها. فقيل: إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد. قال قتادة: كنا نحدث أنها مكة. وقال مقاتل وابن رومان: هي خيبر، وقيل: أرض فارس والروم. وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل { أورثكم } مستعملاً في حقيقته ومجازه؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو ( أرضهم وديارهم وأموالهم ) ، وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى { أرضاً لم تطؤوها } ، أي: أن يورثكم أرضاً أخرى لم تطؤوها، من باب: (  أتى أمر الله ) [النحل: 1] أو يُؤوَّل فعل ( أورثكم ) بمعنى: قَدَّر أن يُوَرِّثكم. وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر ، فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر. ولعلّ المخاطبين بضمير ( أورثكم ) هم الذين فتحوا خيبر ، ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين ، فيكون قصدُه من قوله :          (  وأرضاً )  مناسباً تمام المناسبة.وفي التذييل بقوله ( وكان الله على كل شيء قديراً ) إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده.) (ابن عاشور : تفسير التحرير والتنوير : ج21 : ص 313.  )
 
إن  إغفال هذا المعنى الحقيقي للفظة الأرض ، وجعلها كناية عن النساء ، أو عن فروجهن ، فهو ضرب من ضروب التكلف الذي لا يقره العقل ، ولا يقبله السياق ، ولعلنا نتساءل : كيف ساغ لهؤلاء أن يذهبوا بدلالة لفظة الأرض هذا المذهب البعيد ، مع أن هذه اللفظة في صدر الآية الكريمة ذاتها لا تدل إلا على معناها الأصلي .. ؟ بل كيف يستحسن صاحب الطراز دلالة الأرض كنائياً على النساء لمطابقتها لقوله تعالى في آية أخرى : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثُ لَّكُمْ ) غافلاً عن مطابقة معناها الأصلي للسياق   الذي          وردت فيه ..؟ إذ إن الآية الكريمة تخبرنا عن إيراث أورثه الله سبحانه للمسلمين ، وبدهي أن الأرض الحقيقية _ لا النساء _ هى التى تورث ..!! ولعلنا نتساءل _ أخيراًً _ لو كانت الأرض فى هذا التعبير كما ذهب هؤلاء كناية عن الفروج ، وكان الغرض من تلك الكناية  هو ستر ما يستحيا من ذكره ، فلماذا صرحت الآية _ إذن _ بلفظة ( تطئوها ) مع أنها أكثر دلالة - بناء على هذا التأويل البعيد للتعبير القرآني - على ما يستحيا من التصريح به..؟! 
 
2 – و كذلك قوله عز وجل : ( وَقـَاُلوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهـِدتـُّمْ عَلَيْنَا قَـَاُلوا أنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ) [فصلت : 21 ] .
قال ابن عاشور : ( ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفَرَّاء، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب ( كنايات الأدباء) ،  فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير.) (ابن عاشور : تفسير التحرير والتنوير : ج24 : ص 267)
 
قال الزمخشري - بصيغة التمريض - : (وقيل: هي كناية عن الفروج ..) (الزمخشري : الكشاف : ج3 : ص 450.)
 
لقد وردت لفظ الجلود في الآية السابقة على تلك الآية ( حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ) ،  وفي الآية اللاحقة لها : ( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ) ،  وقد ردد بعض البلاغيـين والمفسرين القول بأن لفظة (جلودهم) هي كناية عن الفروج ..  وهذا الرأي لا مسوغ له ، لأن العُرف لم يَجرِ على استخدام الجلد في الدلالة على الفرج .  
 
 كما أن لفظة الجلود قد وردت  في القرآن الكريم في أربعة مواضع غير هذا الموضع ، تكررت مرتين في اثنين منهما هي آيات [النساء: 56] ,[النحل :80 ] , [الحج :20 ] , ودلت في تلك المواضع الأربعة أو المرات الست على معناها الأصلي , وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن وجه صرفها عن هذا المعنى والزعم بأنها كناية عن الفروج في هذا الموضع بخصوصه ...؟! ولعل مما يُعَمق الإحساس بهذا التساؤل في النفس ، أن البيان القرآني قد صرح بالفروج ــ ولم يُكَنِّ عنها ــ في كثير من المواضع منها قوله عز وجل : ( والحافظين فروجهم والحافظات )[الاحزاب :35], وقوله : (والذين هم لفروجهم حافظون )[المؤمنون :5] ,[المعارج :29] ؟!
 
ثم إن  المعنى الأصلي للفظة الجلود  ملائم  للسياق الذي وردت فيه في سورة فصلت , فلقد وردت الآيات الثلاثة في سياق الإخبار عن حشر أعداء الله يوم القيامة إلى النار ,والجلود بالمعنى الحقيقي لها هي مركز حاسة اللَّمس ، التي يدرك بها الإنسان حرارة النار , ومن ثم كان تعذيب هؤلاء الكفار بتبديل جلودهم بعد إحراقها،كما يخبرنا عز وجل بذلك في قوله : (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ) [النساء :56] .
 
وللكناية في القرآن الكريم نصيب وافر في أداء المعاني وتصويرها ، فهي  تؤ دي المعنى أداء مهّذبا ، إذ تتجّنب ما ينبو عن الآذان سماعه ، وهي  في نفس الوقت  موجزة ،  تنقل المعنى الكبير في اللفظ القليل . وكثيرا ما تعجز الحقيقة عن أن تؤ دي المعنى  كما أدته الكناية في المواضع التي وردت فيها في القرآن الكريم. ولهذا نجد فرقاً واضحاً بين كنايات القرآن وغيرها ، وصدق الله العظيم : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.)( الشعراء:193-195) .
 
وأكتفي بهذا القدر ..إذ الاستقصاء بعيد المنال . 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد