معايشة ميدانية لحرب حزيران عام 1967 / الجزء 7- م. محمد فندي

mainThumb

20-06-2017 09:15 PM

السرعة التي ظهر فيها ملثمون يرافقون فرق القوات الصهيونية في حملات التفتيش عن الأسلحة في المدن والبلدات الفلسطينية توحي بأن الصهاينة كانو قد جندوا مسبقا على ما يبدوا عملاء لهم في الأراضي الفلسطينية. هذا الأمر يشير للاسف الى نقص كبير في التوعية بالهوية الوطنية وبالهوية القومية وبالهوية الثقافية للمواطنين في مواجهة عدو يتربص بهم وبأرضهم وبممتلكاتهم بل وحتى تراثهم وتقديمه للعالم على أنه تراث صهيوني. وصل الأمر بالبعض من هؤلاء العملاء لاحقا على مدى سنين الاحتلال الى حد التباهي بعمالتهم لهذا العدو أمام المواطنين قبل أن تغربلهم الانتفاضة الأولى في عام 1987 ليعودوا للعمل سرا مكتفين بمنافع مادية وفر لهم الاحتلال الصهيوني ظروفها.
 
انتشرت في البلدة أخبار عن أن وزير الحرب الصهيوني موشي دايان بشخصه أخذ يتردد سرا على البلدة في سعيه للتحصل على قطع أثرية خاصة من بعض الأطراف التي كانت تتاجر بهذا التراث الأثري قبل وقوع الاحتلال. هذا الأمر يطرح أكثر من تساؤل عن حجم الاختراقات الصهيونية للمجتمعات العربية وبالأخص مجتمعات دول الطوق وهو ما يستمر عليه هذا العدو حتى وقتنا الراهن ويلقى قبولا للاسف من بعض الأطراف في المجتمعات العربية التي التبست عليها على ما يبدوا مفاهيم الهوية والانتماء الوطني والثقافي لدرجة أنه بات لدى البعض شكوكا في اولويات الأنتماء للوطن أم للعائلة.
 
بعد قرابة الشهر من وقوع الاحتلال قرر والدي رحمه الله ترحيلي مع شقيقي الأصغر للالتحاق بشقيقنا الأكبر اللذي كان في حينه يعيش ويعمل في الكويت خوفا علينا ولنكون في مأمن خاصة بعد أن خبر مجازر العدو الصهيوني سابقا في حق الشعب الفلسطيني، ومن ناحية ثانية لعدم استساغته لما بدر مني في حينه من نزعات شخصية بضرورة مقاومة هذا الاحتلال الصهيوني بأي شكل. عندما علمت من والدي بامر ترحيلي الى الكويت هربت من المنزل وحين عودتي أخذت والدتي رحمها الله وشقيقتي يقنعاني بالقبول بعد أن طلب منهما والدي ذلك.
 
كانت لحظات صعبة على والدتي رحمها الله وهي تودع أطفالها التي لم تتح لها فرصة لقائهم بعد ذلك نظرا لوفاتها بعد رحيلنا عنها بعام واحد. ركبنا الشاحنة برفقة والدي مع افراد وعائلات أخرى واتجهت بنا نحو الأغوار عبر طريق الباذان الصعب والشديد الانحدار بينما بقيت والدتي مع باقي اشقائي في منزلنا لحين عودة والدي بعد أن يكون قد وضعنا بحضانة شقيقي الأكبر في الكويت. بعد أن تجاوزنا اصعب المنعطفات عند شلال الباذان في اتجاه الأغوار كانت هناك سيارة مدنية تحمل لوحة أردنية بيضاء اللون وأميريكية الصنع ترقد محطمة على يسار الشارع ويتضح من طبيعة حطامها أن دبابة صهيونية كانت قد داستها. في الجهة المقابلة للسيارة مباشرة على يمين الشارع كان هناك ثلاثة قبور حديثة جدا من بينها قبر لطفل نظرا لصغر حجم القبر بالمقارنة من القبرين الآخرين. يشير هذا الى أن هذه السيارة كانت تقل أسرة فلسطينية نازحة بحثا عن مأمن قبل أن تدوسها الدبابة الصهيونية وتقتل كل من كان فيها. الصهاينة مشهورين بهذه الأفعال حيث كررو ذلك في عدة مناسبات في جنوب لبنان. جرائم حرب في حق الانسانية متى يتم الأخذ بحق هؤلاء الأبرياء.
 
أستمرت الشاحنة تهبط بنا عبر هذا الطريق في اتجاه الأغوار ونهر الأردن لعبوره. قبل أن ننتهي من الانحدار الصعب لهذا الطريق تفاجئنا بقافلة عسكرية صهيونية طويلة أمامنا تشغل الطريق ولا توجد هناك أية امكانية لتجاوزهم مما اضطر مالك وسائق الشاحنة التي تقلنا الى العودة بنا ليتجه نحو طريق آخر ترابي بديل عبر بلدة عقربة الواقعة على الحواف الشرقية لمرتفعات الضفة الغربية مرورا من بلدة عورتا. ما أن بدأت الشاحنة في الهبوط بنا عبر هذا الطريق الترابي الصعب حتى تكشفت لدينا اغوار نهر الأردن بجمالها الطبيعي الخلاب، لكن ما عكر استمتاعنا بجمال الطبيعة هو حزن الرحيل وتبياننا بأننا نمر من خلال منطقة يتضح منها أنها كانت قبل أيام ساحة لمعركة كبيرة مع العدو الصهيوني مع بقايا لآليات عسكرية محطمة يعج بها المكان. مشاهد محزنة من الدمار لآليات وقطع عسكرية اعقبت على ما يبدو هذه المعركة.
 
أثناء هبوطنا بالشاحنة وبالقرب من تلة مخروطية الشكل تدعى قرن حمدان كما يطلق عليها المواطنون والتي من الممكن مشاهدتها بالعين المجردة من داخل الأراضي الاردنية وعلى احدى المنعطفات الحادة من هذه الطريق الترابية كانت ترقد دبابة الذروة هناك سالمة دون ان يصيبها اي ضرر بعد أن تخلى عنها طاقمها وهي على ما يبدوا منسحبة في اتجاه الشرق. أتذكر جيدا هذه الدبابة التي سميت بالذروة عندما نظم الجيش قبل حرب حزيران في احدى مناسبات اليوم الوطني عرضا عسكريا في ميدان الرماية التابع للقاعدة العسكرية في حوارة والواقع خارج بلدة عورتا على طريق عورتا – عقربا دعي اليه المواطنين آنذاك من مختلف مناطق محافظة نابلس حيث تخلل العرض العسكري آنذاك استعراضا لدبابتين كانت دبابة الذروة احداهما.
 
شاء القدر بعد ذلك بعدة اشهر واثناء عملي في الكويت قبل أن التحق بالمدرسة أن ألتقي بطريق الصدفة باحد العسكريين المتقاعدين اللذي جاء للعمل في الكويت ليخبرني بأن وحدة عسكرية خاصة قد تسللت خلف خطوط العدو الصهيوني ليلا وقامت باحضار هذه الدبابة سالمة الى الضفة الشرقية عبر نهر الأردن. بالمناسبة بعد تحويل مجرى نهر الأردن في العام 1965 من قبل الصهاينة اصبح بامكان الشخص ان يعبر مجرى النهر سيرا على الأقدام. ذلك النهر التاريخي والمقدس اللذي كنا ناكل من أسماكه واللذي اتيحت لي فرصة ركوب القارب والتجوال فيه يوما ما في رحلة مدرسية في عام 1962 اصبح لهذه الدرجة شحيح المياه ويمكن اجتيازه سيرا على الأقدام من قبل حتى الأطفال. ألا يشكل وجود هذه الدولة الصهيونية المارقة ضررا حتى على البيئة نفسها.
 
بعد عبورنا نهر الأردن سيرا على الأقدام في المنطقة الواقعة غربي مدينة الكرامة لاحظنا وجود شاحنات على الضفة الشرقية للنهر في انتظار النازحين لتقلهم الى عمان لقاء مقابل مادي. ركبنا احدى هذه الشاحنات في اتجاه عمان واثناء مرور شاحنتنا منطقة الكرامة كان المشهد مرعبا لكثرة وجود الآليات والدبابات العسكرية العراقية المدمرة والمتفحمة المنتشرة في المنطقة حيث على ما يبدوا أن هذه الوحدات العراقية المقاتلة تعرضت لقصف جوي صهيوني. في اتجاه عمان سلكت بنا هذه الشاحنة طريق وادي شعيب اللذي يتميز بمنحدراته الشديدة حيث مررنا بفريق عسكري عراقي كان مشغولا بانتشال آلية عسكرية لهم سقطت في الوادي السحيق جراء تأثرها على الأغلب بضربة جوية. مع بداية الغروب وصلت بنا الشاحنة الى منطقة أم الحيران في عمان حيث تفاجئت بوجود الكثير من أبناء بلدتنا. في أم الحيران التقينا بقريب لنا جاء خصيصا من الكويت للاطمئنان على اهله وعلينا وفي اليوم التالي سافرنا برفقته الى الكويت برا مرورا ببغداد والعمارة والقرنة والبصرة، بعدها عاد والدي الى البلدة ليكون برفقة باقي أفراد الأسرة. في الكويت التحقت أنا وشقيقي الأصغر بالمدرسة لاستكمال مراحل التعليم الأساسي وتبدأ من تلك اللحظة في أم الحيران رحلة اغترابي واشقائي الطويلة التي استمرت وتستمر حتى يومنا هذا.
 
وهنا أقول كلمة حق وبناء على هذه المشاهدات العينية إلى أن الجيش الأردني هو الجيش العربي الوحيد اللذي قاتل العدو الصهيوني بشراسة في حرب عام 1967 على الرغم من امكانياته العسكرية المحدودة مقارنة بالجيش الصهيوني وباقي الجيوش العربية.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد