الفقاقيع

mainThumb

04-12-2019 07:00 PM

قال حكيم: عشت زمنا طويلا، وثقفتني التجارب، حتى أصبحت كصخرة وسط سيل، صقلها مرور الماء، فابيضت وغدت ملساء لا تجرح أحدا، ولا تعلق بأحد، صرت أتفهم كل المارين بجانبي .. ولكن كل هذا الزمن والتجارب، غدت كأنها لحظة، تشبه خفقة جناح مر بجانب طور مرتفع.... تضاءلت كل تجاربي أمام فتى كان يسير في الطريق، يحمل علبة وبيده قصبة يدخلها في الماء ثم ينفخ فيها فتخرج فقاقيع تتلامع مع الشمس، منها الكبير ومنها الصغير، منها ما يرتفع عاليا ومنها ما ينحط الى الاسفل وكلها تعيش لحظات ثم تتلاشى كأن لم تكن شيئا مذكورا.. ثم يصيح بصوت مرتفع، لا تغتروا بالفقاقيع، بنفخة تنشأ وبنسمة هواء تضيع..!!
 
حاولت أن استجلي حقيقة الفتى وأتعلم منه، -على ما بيننا من عمر- لعل عنده ما يفيدني.. تقدمت منه واستوقفته، قلت ماذا تعني بما تقول، وهل انت تبيع شيئا، مع أني لا أرى معك غير العلبة والقصبة؟ قال الفتى: أنا أبيع الحكمة لمن يريدها وأبيعها مجانا.. قال الحكيم: كيف تبيع وتقول هي مجانية؟ قال الفتي انا لا ألقيها لأي أحد..! من يعطيني ثمنها المعنوي وهبتها له.. قال الحكيم: وما ثمنها قال الفتى: ثمنها ان تمنحني سمعك وقلبك وتقبل ما أعطيك اياه.. 
 
تعجب الحكيم من كلام الفتى، وقال: لا أريد منك حكمة، قبل ان تحكي لي قصة الفقاقيع التي تنثرها في الطريق وسرعان ما تضيع ولا تظهر الى الوجود أبدا..
 
قال الفتى: سأهجم لك على الموضوع بلا مقدمات ولن اتركك في حيرة.. الفقاقيع التي تراها ماهي إلا أناس يبحثون عن الزهو واللمعة الخادعة التي سرعان ما تختفي وتتلاشى  ولا يعود لها أثر.. قال الحكيم زدني، قال: هم أصحاب المناصب الطارئين، الذين ينشغل بهم الناس للحظات طمعا بخدمة أو نشوة كبرياء ضئيلة، ثم ينتهي المنصب والوظيفة والرتبة، ويكون فارغا لا يملك غير زهوها، فيعود كاسدا مغمورا لا يعرفه أحد، ولا يأتيه أحد، بعد ان كان بيته محجا لأصحاب الحاجات والبائسين، وجماعة - شراشب الخرج- الفارغين الذين يبحثون عنده عن التسلية وقتل الوقت..
 
اندهش الحكيم من الفتى، ونقده العجيب لواقع الناس المريض، وتذكر نفسه في زمن مضى، وهو فقاعة صغيرة تنحط الى الاسفل عندما كان يقف في طابور طويل ليسلم على صاحب منصب، ثم نظر الى جانبه.. فرأى نفسه ثانية ضئيلا في مكتب فقاعة ضئيلة.... فانتفض الحكيم وقال للفتى: لن أدع أحدا من الناس بعد اليوم يدعوني حكيماً أو شيخاً أو وجيهاً، ما أنا وأضرابي إلا فقاقيع صغيرة نندفع مع فقاقيع كبيرة سرعان ما نتلاشى جميعاً، لن نبني وطنا إن بقينا فقاقيع تلتف حول فقاقيع...


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد