مجالس أمناء الجامعات والإصلاح المتوهم!

mainThumb

07-11-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان

هناك مثل فرنسي معبر يقول: "إذا أردت أن تقتل مشروعاً فشكل له لجنة"! يبدو أن القوم عندنا يأخذون بنصيحة ذلك المثل بحماس منقطع النظير، فينفذونه بطريقة تجعله بالغ الصحة، وإن كان ذلك مع شيء من التعديل الشكلي البسيط؛ إذ يعمدون إلى تشكيل "مجلس" لأي مشروع يشاء له حظه العاثر أن يحظى باهتمام أهل الحل والعقد، وكأنهم يضمرون إفشاله وتفريغه من مضامينه الإيجابية، مهما سمعنا من تصريحات "مورفينية" تدعي الحرص عليه والسعي المخلص للأخذ بيده على طريق التقدم والفلاح!
يأتي هذا الحديث المثير للشجن بمناسبة الإعلان عن تشكيل مجالس أمناء الجامعات الأردنية الحكومية والخاصة بعد طول انتظار، ولا أكتمكم القول إنني أرثي لحال أولئك الأمناء إذا أردتم الحق، فقد سعى كثير منهم برجليه، وهم من ذوي العقول الراجحة فيما يفترض، إلى حمل الأمانة التي حرصت السماوات والأرض والجبال الصماء نفسها على التملص من حملها بعد أن أشفقن منها، ليكونوا جديرين بأن ينطبق عليهم الوصف الإلهي الذي نعت الإنسان بأنه "كان ظلوماً جهولاً"، وذلك عندما تنطع لحمل الأمانة الثقيلة التي تهربت من حملها الجمادات!
الاستعراض السريع لأسماء أعضاء تلك المجالس يكشف عن حقيقة مقلقة وصارخة لا سبيل إلى إنكارها أو مواراتها، تفيد بأن سياسة توريث المناصب والتوزيع غير العادل للمكاسب قد غدت في بلدنا أمراً واقعاً ومحسوماً لا ريب فيه! وكأني بأعضاء النخبة السياسية الذين تحالفوا على نحو حميم، بل التحموا إذا أردتم الدقة، مع أعضاء النخبة الاقتصادية قد ضمنوا تجذير حضورهم الأبدي في مواقع السلطة والنفوذ والتحكم بعوالم السياسة والمال، بعد أن فرضوا الأبناء والأقارب والأصهار على تلك المواقع، التي اختلط حابل الاقتصادي فيها بنابل السياسي، فغدوت لا تدري أين تبدأ حدود هذا وأين تنتهي تخوم ذاك، فوزير اليوم هو نفسه رجل أعمال الغد، وسياسي الصباح هو ذاته اقتصادي المساء، وليس لبقية مواطنيهم من عوام الناس إلا تجرع القهر والتزام الصبر، والجأر بالدعاء إلى الله لرفع البلاء!
رجل الأعمال، وهذه حقيقة جلية تثبتها ملايين الوقائع والشواهد والحالات، لا يعبأ في أغلب الحالات إلا بتعظيم أرباحه، ومن باب السذاجة أو التساذج الافتراض بأنه قد يغدو قديساً فجأة ويبدأ بالتفكير بصالح العلم والطلبة والأساتذة والمجتمع إذا ما وضعناه عضواً في مجلس أمناء جامعة ما، وبخاصة إذا كان هو أو السيد الوالد أو العم أو الخال، وربما السيدة الوالدة أيضاً، من كبار المساهمين فيها!
إذا ما أردنا لجامعاتنا المشكوك جدياً في هوياتها وأهدافها ومستوياتها العلمية أن تصبح جامعات فعلاً، بما تعنيه الكلمة حقاً، وبما تقتضيه من اهتمام حقيقي ومخلص بالعلم، تلقياً وإنتاجاً ونشراً وتطويراً، فإن على مجالس أمنائها أن تتألف وحسب من شخصيات وطنية محايدة، تتمتع بخبرات واسعة وإنجازات معتبرة يعتد بها في حقول العلم والفكر والإدارة، إضافة إلى معرفة عميقة بأوضاع الجامعات ومشكلاتها. والأهم من ذلك وقبله، وجوب تمتعها بسير نظيفة لا تطالها الشبهات، ولا تخدشها علامات الاستفهام المتعلقة بتنفيع الأقارب وشرعنة خصهم بمكاسب ومناصب وامتيازات باهظة الكلفة على حساب الوطن وأهله، ما كان لهم أن يتمرغوا في نعيمها لولا تطاول أصابع التحايل والفساد!
ربما أضحى من باب الرتابة والإملال الحديث عن أن الجامعات وجدت لتكون مشاعل لتنوير المجتمع ومعاقل لقيادته وتطويره والسير بأبنائه على دروب الترقي العلمي والفكري والأخلاقي والإنساني، لكنني لا أجد بداً من التذكير بذلك، لأن الجامعات لم توجد بكل تأكيد لتكون مجرد مشاريع تجارية، لا تختلف طريقة النظر إليها والتعامل معها من جانب أصحابها ومنشئيها من التجار والسماسرة عن طريقة نظرهم وتعاملهم مع مشاريع "الكازيات" والمطاعم ومزارع الأبقار!

وأحب أن أذكّر هنا بمثال مهم لا أملّ من استحضاره، فجامعة (هارفرد) الشهيرة، وهي أهم جامعة في العالم، جامعة خاصة لا تنكر سعيها إلى الربح المالي، إلا أن ذلك السعي المشروع لم يقدها البتة إلى أن تتحول إلى "دكان" يتحكم في شؤونه تماسيح المال والأعمال!
ثم قولوا لي بربكم، أي مجالس هذه التي ستنجح في الارتقاء بأوضاع الجامعات وأعضاؤها لا يجد واحدهم الوقت لحك رأسه!؟ فكلهم مشغول حتى أذنيه بمتابعة رتل من المهام والأعمال والمصالح المتشعبة، الاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية، وربما السياسية أيضاً، هنا وهناك، فهل يملك هؤلاء حقاً ما يكفي من الوقت الإضافي كي يوظفوه للتفكير في خدمة الجامعة والعمل على تطويرها!؟
أجدني أتساءل هنا، لماذا لا يتم تكليف كبار أساتذة الجامعات من أجلاء العلماء الذين لا يلهثون خلف المناصب، ولم يصبحوا تجاراً وسماسرة وقد جاوزوا عتبات الشباب ولا يسعون إلى ذلك ـ وأتحدث هنا عن كبار الأساتذة المرموقين ممن أفنوا أعمارهم في إثراء العلم والمعرفة، وليس عن مجرد المدرسين والإداريين الذين يعملون في الجامعات وفي مؤسسات الدولة أو تقاعدوا منها وهم يعيشون ويفكرون بعقلية الموظف الانتهازي الذي يبحث عن مواقع مهمة والسلام ـ بأن يتولوا تسيير شؤون تلك المجالس، شريطة تمكينهم من التمتع بصلاحيات فعلية واسعة، بحيث يخصصون لذلك جل وقتهم، مستثمرين حصيلة ما يملكون من حكمة وخبرة وسعة أفق وعلاقات دولية محترمة وروح معرفية إصلاحية وتنويرية زاهدة، لا تعبأ كثيراً بحسابات الدرهم والدينار، التي ما هيمنت على مشروع علمي أو ثقافي نبيل إلا وأفسدته!

تحتاج جامعاتنا إلى مجالس حكماء وليس إلى مجالس أمناء بالصيغة الركيكة التي نشهد، مع حصر أعداد مكونيها بخمس أو سبع شخصيات مقتدرة على أبعد تقدير، وليس إرهاقها وخنقها بعدد كبير من الأسماء، التي جيء بالعديد من أصحابها لأسباب تنفيعية واسترضائية لا علاقة لها بالعلم أو الإدارة من قريب أو بعيد، بل إن بعضها يحمل تاريخاً لا يبعث على الكثير من الانبهار، حتى لا أقول الاعتزاز، علمياً وإدارياً!
إصلاح الجامعات من الخطوات الأساسية الضرورية لأي إصلاح جدي يا صناع القرار، صدقوني، فإذا صلحت الجامعات، وهي المسؤولة عن تأهيل أبنائنا وإعدادهم معرفياً وأخلاقياً لتسيير شؤون حياتنا كلها؛ ارتفعت إمكانات صلاح المجتمع كله. وإذا خابت، كما هي خائبة الآن بفضل السياسات العقيمة الهوجاء التي آن لها أن تُكبح وتُلجم، فليس لنا إلا مراقبة المزيد من تردي أحوال مجتمعنا بمنتهى القلق، والتفجع على المصير الأسود القادم لا محالة، الذي لا أدري لم?Z نختار، وبإصرار عجيب مريب، أن نصير إليه!

sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد