عيد الأمّ المزعوم ,وِقْف?Zةُ تأمُّلٍ

mainThumb

21-03-2010 12:00 AM

الدكتور حسن فالح البكور

كان يتحاوران معا في قضايا الساعة وبعض المسائل الخلافية ، وما يدور من جدل حول مستقبل العالم في ظل ما يعصف به من أزمات اقتصادية ومالية ، وما يلفح به من تجاذبات وتكتلات, تتأرجح خلالها أنظمة وتتهاوى أخرى, وما يحدث لبعض المجتمعات من انهيار في الهوية ,والثقافة, وإعلان التبعية للأنظمة القوية, والانخراط في سبيلها,والتحالف معها ,والسقوط في أحضانها ، وفي هذه الأثناء بادرت بطرح السؤال التالي :
ما رأيكما في احتفال العالم العربي والإسلامي بعيد الأم ؟ أجابني خالد : القضية فيها نظر ، واختلف العلماء في حكمها ، فمن قائل بالتحريم ، ومن قائل بالتحليل ، وراح خالد يسوق أدلة الفريقين وأخيرا قال : وأما أنا فأرى أن الاحتفال بعيد الأم أمر مقبول ومستحسن ، لأننا في هذا اليوم نعتني بأمِّنا ,ونرعاها ,ونهتم بها ونحسن إليها ، وأما ناظم فقد قرأت في وجهه الغضب, ولمحت في عينيه رأيا آخر،فإذا به يتلو قوله تعالى "و?Zق?Zض?Zى ر?Zبُّك?Z أ?Zلاّ?Z ت?Zعْبُدُواْ إِلاّ?Z إِيّ?Zاهُ و?Zبِالْو?Zالِد?Zيْنِ إِحْس?Zانًا إِمّ?Zا ي?Zبْلُغ?Zنّ?Z عِند?Zك?Z الْكِب?Zر?Z أ?Zح?Zدُهُم?Zا أ?Zوْ كِلا?Zهُم?Zا ف?Zلا?Z ت?Zقُل لّ?Zهُم?Zآ أُفٍّ و?Zلا?Z ت?Zنْه?Zرْهُم?Zا و?Zقُل لّ?Zهُم?Zا ق?Zوْلاً ك?Zرِيمًا . و?Zاخْفِضْ ل?Zهُم?Zا ج?Zن?Zاح?Z الذُّلِّ مِن?Z الرّ?Zحْم?Zةِ و?Zقُل رّ?Zبِّ ارْح?Zمْهُم?Zا ك?Zم?Zا ر?Zبّ?Zي?Zانِي ص?Zغِيرًا . رّ?Zبُّكُمْ أ?Zعْل?Zمُ بِم?Zا فِي نُفُوسِكُمْ إِن ت?Zكُونُواْ ص?Zالِحِين?Z ف?Zإِنّ?Zهُ ك?Zان?Z لِلأ?Zوّ?Zابِين?Z غ?Zفُورًا }(1) ثم يتلو قوله تعالى " ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أُمُّهُ وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير" (2)وينتقل إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم – حينما سئل : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال أمك ، قال ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال ثم من ؟ قال : أبوك ، وراح يدلل على أن تكريم الأم في هذا اليوم إنما هو بدعة أجنبية دخيلة على ديننا ، لان ديننا الإسلامي, يحضُّ على تكريم الأم في كل لحظة ، وليس في يوم محدد .
وبعد هذا الحوار توجّ?Zها لي بالسؤال : وأما أنت ، فما موقفك من الاحتفال بعيد الأمّ ؟ وما هي الرسالة التي توجهها إلى الأم في عيدها ؟
بدأت حزينا ,ومتألما لما يستعدُّ العالم للاحتفال بهذه المناسبة , وقلت : إنني غاضب لهذا التردِّي الذي وصلت إليه الأمة , فلا أدري لماذا نتتبع خطوات أولئك الذين لا نلتقي معهم في مصادر الثقافة, والحضارة, والدين ,واللغة ,والعادات والتقاليد, وحتى طبيعة المكان , ولست قادرا على إدراك مغزى تقليد كل دخيل, يهب علينا من وراء المحيطات والبحار ! إن التشبُّث بخطى من كانت الدنيا أكبر همه, والمال والمتاع مبلغ همّه , وتقوى الله وراء ظهره , إنما هو مغلوب على أمره , وتائه في بحر لجّي وظلام دامس , وقد أصيب بعقله, وألغى فكره, وعطّ?Zل حواسه , وأعلن على الملأ إفلاسه,إلى أن ختم على قلبه بالشمع الأحمر , نعم , أختلف مع كل أولئك الذين يحسنون إلى الأم, ويرعونهم ,ويكرمونها في يوم هذا العيد المزعوم , وبعدها يغادرون, ولا يعودون إلا في الحادي والعشرين من آذار من كل عام , وكأن القضية تقديم الطقوس والقربان في هذا اليوم .
إنني أهمس في آذان مثل هؤلاء لأقول لهم : كيف ترضى ضمائركم أن تفترشوا أفخم السجاد ,وأمهاتكم تفترش الأرض والحصير ؟ كيف تنامون, وتهنئون في ظلال المِدفأة , والبرد القارس يحل على الدوام ضيفا في الملجأ الذي تقطنه الأمهات ؟ كيف تتفقون مع الذات وتفرحون , وأمهاتكم يلفُّها النسيان بأردانه, ويغطيها الألم والحزن والحرمان والشقاء ؟ إنني أعجب أشد العجب من ذاك الابن الذي حمل أمّ?Zه ليدفع بها إلى كهف بعيد ,وأودعها في ذلك المكان الذي لا أنيس فيه ولا جليس إلا من الوحوش, وقال لها يا أمي أنا عائد إليك بعد قليل , وهذا الطعام والماء لك حينما تحتاجين , وبعد ثلاثة أيام عاد إليها , وقد ظن أنها فارقت الحياة , وحينما وصل, وجد الطعام والماء كما هو , وإذا بها تبكي بكاء مرا , فقال لها: ما يبكيك وقد أودعت عندك ما تحتاجين ,؟ قالت له : لا أبكي من قلة الطعام والشراب , ولكنني خشيت عليك يا حبيبي, فظننت أن الذئب قد أكلك ,وبقيت أبكي عليك هذه الأيام , فكيف لي أن أتناول الطعام ؟ والآن حمدا لله على سلامتك فلذة كبدي , الله اكبر , كم هذه المفارقة العجيبة بين هذين الموقفين !. ويقول أحدهم: دخل علي رجل ومعه زوجته، ومعهم عجوز تحمل ابنهما الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات يشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات، دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً، وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتما فأعجبها لكي تلبسه في هذا العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريالا؟ قال: لهذه المرأة؛ قد أخذت خاتماً، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة: لماذا أغضبت أمك، فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟ ذهب الابن إلى أمه، وعرض عليها الخاتم فقالت: والله ما ألبس الذهب حتى أموت، ولك يا بني مثله، ولك يا بني مثله. (3)

قلب الأم ينبض بالحنان ، وقلب الابن يتفجّ?Zر عنفا وقسوة ، لقد نسي هذا العاق أن أمه قد حملته تسعة أشهر ، ثم ولدته وأرضعته, وربّ?Zته ، وسهرت معه الليالي الطوال ، وتبكي دما حينما تحس انه يتألم ، والآن تبكي عليه, وهو يبكي لوجودها ، إن القلب ليتفجر حرقة وألما ، وان الدمع لا يقوي على الصمود أمام مشهد آخر من مشاهد الرعب, حينما نشاهد الأمهات وقد دفع بهن أولادهن إلى دور العجزة من المسنين ، ومع ذلك العقوق الذي لا مثيل له ,لم يشهد التاريخ منذ الجاهلية تلك الصور ، مع كل هذا كيف يتفطر فؤاد الأم وكم تتمنى أن ترى ابنها العاق في أحسن حال .
فيا أيها التائهون في سراب الحياة ، أما آن لكم أن تستيقظوا من سباتكم العميق ؟ أما آن لضمائركم أن تصحو من غفلتها ، ويا من تدركون أن أمهاتكم وآباءكم ,سارعوا إلى الإحسان إليهما قبل فوات الأوان ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " رغم انف ، ثم رغم انف ، ثم رغم انف, قيل من يا رسول الله ؟ قال من أدرك أبويه عند الكبر ، أحداهما أو كليهما فلم يدخل الجنة " فيا أيتها الأمهات حذار من الوقوع في مستنقع المشاركة والتشجيع في عيدك المزعوم في الحادي والعشرين من آذار ، إن مقامك الطاهر ، ومنزلتك المقدسة ، وعرشك السامي يأبى أن يُنتقص ,أو أن يخدش بهذه الترّ?Zهات والأباطيل التي ما أنزل الله بها من سلطان ، والآن برجك في المعالي, فلا تشرعي نوافذه لكل غراب ينعق ، ولكل من يحاول أن يهديك باقة ورد ، أو عباءة أو عقدا من الذهب ، أو شريط كاسيت يغني لك , انك اليوم وفي كل يوم, تحتاجين ممن يحتفلون بك إلى أن يقوموا بواجبهم الشرعي تجاهك, وأن يؤدوا حقك , دون منٍّ أو أذى , وشتان بين وردة تذبل , وهدية تفني , وعباءة تبلى , وبين كلمة طيبة, وموقف مشرف, يحفظ للام كرامتها , ويمنع إذلالها واهانتها .
لعل أولئك الذين يحتفلون بهذا اليوم , إنما يقومون بهذا الفعل, ربما لأنهم يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم مقصرون بحق أمهاتهم , ويعتقدون أن تقديم الطقوس والواجبات في هذا اليوم, يكفِّر عن ذلك التقصير والعقوق , وما هذا التفكير القاصر سوى ضربٍ من الأوهام , والنظرة السطحية للأمور , فإلى هؤلاء أقول : والله لو أنكم أحييتم هذا اليوم , وقدمتم لأمهاتكم كنوز الدنيا , ما كان ذلك يعدل طلقة واحدة عند المخاض , ولا ألما واحدا أثناء الحمل والتغير في السلوك عند الوحام , ولا يحاكي همّ?Zا من همومها , وأمنية من أمنياتها أن تراك رجلا أو ابنة تعلِّق عليك الآمال والطموحات , لقد تحمّ?Zلت الآلام في سبيلك , وسرقت من عينيها حلاوة النوم من أجل سعادتك , وأفرغت تأوهاتك وإحزانك وأمراضك في صدرها, تسهر على راحتك , وأسكبت في قلبها حرارة جسدك من أجل شفائك ,
إنها تحرق نفسها لتضيء لنا الطريق ، ونحن – واحسر تاه – نحرق أنفسنا في سبيل أهداف دنيوية فانية ، إنها النبع الذي يتدفق حبا وعطفا وحنانا لا يتوقف ، ونحن – وللأسف – رحنا نلوث ذلك النبع بكل غريب ودخيل ,يهب علينا من هنا وهناك ، إنها العين الساهرة التي لا تنام حينما تسمع أن شوكة أصابتنا أو جرحا الم بنا ، أو مخلبا نشب في أجسادنا ، أو ليلة رمتنا بداهية ، أو محتالا نصب شراكه لنا ، ونحن نخجل بها إذا زارنا ضيف ، فلا ندعها تشاركنا في الحديث أو الجلوس حول مائدة الطعام ، أو الذهاب في رحلة للتنزه والاستجمام ، بحجة أنها من الرعيل القديم, والجيل المتخلِّف المهترئ ، نعم تلك صورة قاتمة مما يحدث في مجتمعاتنا ، وربما يكون ذلك مشهدا متواضعا, مقايسة بتلك النماذج التي ما زالت مجهولة الاكتشاف ,أو تقبع في زوايا النسيان .
إن أمثال هؤلاء يحق لهم أن يخصصوا يوما واحدا في السنة ليحتفلوا فيه بعيد الأم , لعل لقلوبهم القاسية أن تلين , ولعقولهم المتحجرة أن تؤوب إلى ذكر الله , ولأوهامهم وغطرستهم أن تهدأ وتخشع , ولعل لضمائرهم الضائعة أن تعود إلى رشدها .
وفي هذا المقام اذكِّر إخواني في الله بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجنة تحت أقدام الأمهات " إن السبيل الأمثل لبلوغ الجنة يمر من خلال الأم ,ولعل هذا البيان النبوي, يفجر الطاقات الكامنة في الأبناء, ليهبوا من غفلتهم ونومهم إلى القيام بواجباتهم تجاه أمهاتهم , في كل وقت , ولبيان أهمية الأم ومنزلتها العالية عند الله , فقد قرأت قصة في الانترنت على منتديات الغدير أن شابا من اندونيسيا, ضاق ذرعا بأمة وكره وجودها, وغضب منها كثيرا والعياذ بالله, فقتلها ,وفي اليوم التالي أعلن أن أمه قد ماتت , ولما حملها الناس إلى القبر, وكلما اقتربوا منه ثقلت الجثة, ولا حظوا أن ابنها حينما يحمل معهم تخف , ولما هموا بمواراتها التراب ثقلت كثيرا , عندها قرروا أن يحملها ابنها فقط , فحملها فكانت خفيفة جدا , ولما وضعها في القبر أطبق التراب عليه , ولم يبق إلا رأسه, وبقي على هذه الحالة يومين , وبعد ذلك اخذ التراب ينفرج عنه شيئا فشيئا إلى أن خرج, وقد أكلت الديدان جسده , فكانت تدخل من جزء, وتخرج من الجزء الآخر , ومكث أياما ثم مات,الله أكبر , إنها جريمة لا تغتفر , أهكذا يكون بر الوالدين ؟ فلنتعظ ولنعتبر , وكفانا الانخراط في المظاهر والاحتفالات , ولنحرص على أن تكون جميع الأيام أعيادا لأمهاتنا , وكفى تقليدا وتبعية وإلغاء للهوية والشخصية , فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ",اللهم اغفر لأمهاتنا وآبائنا , وخذ بأيدينا للقيام بواجباتنا لهما , وأعنّ?Zا على البر بهم في الحياة, وعند الممات يا أرحم الراحمين .hasanlbkoor@yahoo.com

الهوامش
1-الإسراء : الآيات 23-25
2- لقمان:آية 14
3-http://muntada.islamtoday.net/t31013.html


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد