العلم في عمان أزياء!

mainThumb

06-11-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان

"العلم في عمان أزياء"!، هذه العبارة ليست من ابتكاري، بل إنها مقطع من قصيدة بالغة التميز لأنقى شعراء الأردن وأكثرهم صدقاً وشاعرية، وأتحدث هنا عن طيب الذكر الراحل الباقي شاعر الأردن (مصطفى وهبي التل "عرار")، الذي قالها قبل سنوات طويلة من إنشاء أولى الجامعات الأردنية؛ تفجعاً على حال البلد وأهله، بعد أن ابتلي بأدعياء العلم والدخلاء عليه يتحكمون في مقدراته ومصائر أبنائه، عبر تقلدهم لأرفع المناصب وأخطرها فيه!
كان ذلك منذ أكثر من ستين سنة، ولا أدري حقاً ما الذي يمكن لشاعرنا الكبير أن يقوله أو يفعله أو يفكر فيه فيما لو قيض له أن يعود إلى الحياة اليوم، ويقوم بجولة في جامعاتنا العتيدة التي باتت جديرة بأن يصدق عليها المثل الشعبي القائل: "أكثر من الهم على القلب"!

فيما أخمن، سيصاب شاعرنا مفرط الحساسية بنوبة قلبية صاعقة تعيده سريعاً من حيث جاء بمجرد اجتياز بوابة الجامعة ـ ولنقل إننا نتحدث هنا عن الجامعة الأردنية العجوز المتصابية، بوصفها أم الجامعات الأردنيات وأكبرهن ومثلهن الأعلى في سنّ السنن الحمقاء ـ هذا إذا افترضنا جدلاً أن الإخوة الأكارم حراس البوابة سيتفضلون ويتعطفون بالسماح له بالدخول، وبخاصة أن قسماته الحادة قد تثير الريبة بأنه قادم لإشعال مشاجرة عشائرية دامية، وكأن طلبتنا الذين تستوطن رؤوسهم فيروسات التشنج والغضب ينتظرون أن يأتيهم أحد من خارج الجامعة ليتولى عنهم "شرف" القيام بتفجير النزاعات واتباع إملاءات شياطين العدوانية والعصبية القبلية الجاثمة فيهم! ولكن لأغراض إتمام هذا المقال البائس الذي قد لا يجد من يتوقف عنده، سنفترض أن شاعرنا الكبير سيتمكن من اجتياز عتبات "الجنة"، معذرة أقصد الجامعة، ربما بعد أن يتوسل إلى الحراس الأشاوس ويقنعهم بأنه مجرد "شاعر"، وأنه لا يضمر للجامعة وأهلها أي شر!
ما أن يطأ صاحب "عشيات وادي اليابس" أرض الجامعة حتى تتيبس نظراته ويلتبس عليه الأمر، فيخال أنه في عرس للنو?Zر، وإن كان عرساً يتخذ صبغة زائفة ومصطنعة تختلف كثيراً عما عهده الرجل في الأعراس "النورية" في أيامه من تلقائية وجمال! فثياب الكثيرات من بنات الجامعة، بألوانها المبهرجة الفاقعة وتصاميمها الخليعة المارقة توحي بأننا في عرس غجري مفتعل وسيء التقليد، أو في كرنفال احتفالي متكلف، أو في عرض للأزياء الفانتازية، وليس في حرم جامعي يفترض أن يحمل من القداسة حسب ما تمليه تقاليد تاريخنا المجيد ما يحمله المسجد نفسه!
سيتعثر شاعرنا النبيل أثناء جولته بمئات الطلبة يفترشون أرصفة الجامعة وينزوون تحت أشجارها، ليس بالطبع من أجل مناقشة آخر النظريات العلمية في حقول تخصصاتهم في أغلب الحالات، وإنما من أجل تبديد الوقت في معايشة قصص الغرام، أو تمثيلها أو المباهاة بها أو التحسر على إخفاقها، أو للتخطيط للاشتباك في جولات ضارية من الشجار العشائري للانتقام مما حاق بهم من قهر وأذى في جولات أخرى سابقة، أو لاستعراض هواتفهم النقالة الجديدة وإبراز إمكاناتها الفذة، التي لا يتم توظيفها طبعاً إلا في أحاديث السفاهة والتفاهة!
وإذا ما دخل شاعرنا إحدى قاعات المحاضرات، فإنه سيجد عشرات وربما مئات الطلبة يتكدسون في المكان، يتثاءبون بملل ويتشاغلون عما يقوله المحاضر الذي لا يكادون يسمعون صوته بالعبث بهواتفهم المحمولة، أو بالتحليق حيث تشاء لهم أفكارهم التحليق، أو بتبادل ذكورهم وإناثهم الهمسات والنظرات الملتاعة عشقاً وهياماً، أو بالثرثرة فيما بينهم لقتل المحاضرة الثقيلة والتسريع بالخلاص منها، هذا إذا لم يجد بعض الطلبة يهزأون بالمحاضر المهمش ويجعلون منه ومما يقول مادة للسخرية والتندر وتبادل النكات!
وإذا ما قرر شاعرنا المصدوم أن يخرج قليلاً عن صمته الطويل بعد أن استبد به الغضب لبؤس ما يرى ويسأل بعض الطلبة عن أسباب انصرافهم الكلي عن الاهتمام بالعلم الذي ما وجدوا في الجامعة إلا لكي يهتموا به، تحصيلاً وتقييماً وتطويراً، فسيجيبه معظمهم بابتسامة هازئة أن العلاقة بين الجامعة والعلم باتت كالعلاقة بين الشرق والغرب!
فلا أحد يدخل الجامعة اليوم في سبيل تحصيل العلم كقيمة سامية جديرة بالاعتبار لذاتها، بل يدخلها الجميع من أجل شهادة نفعية لا أحد يهتم حقاً بكيفية نيلها، أو بمدى تعبيرها عن تعلم صاحبها وارتقاء شخصيته معرفياً وعلمياً وإنسانياً!

لذلك ترى الطلبة تحركهم حسابات أهاليهم يتدافعون على أبواب أقسام المحاسبة والكمبيوتر واللغات طمعاً في التسجيل فيها، ما دامت تلك الأقسام أقدر من غيرها ـ حسب النظرة الشائعة ـ على فرضهم على سوق العمل بأخلاقياته وقيمه وتفضيلاته وسياساته المريضة، ودعنا من سذاجة الحديث عن العلم وشؤونه وشجونه؛ إذ لم يعد العلم البائس في زماننا الساقط، زمن انهيار القيم الرفيعة، إلا وسيلة مبتذلة لجمع المال وتلميع الوضع الاجتماعي!
وفي ذلك السياق، قد يستشهد أحد الطلبة بقصة محزنة تقول إن جهود إنشاء برنامج البكالوريوس في الفلسفة في الجامعة الأردنية قد أخفقت تماماً في سنة من السنوات، لأن عدد الطلبة الذين تقدموا للدراسة في القسم لم يتجاوز (6) طلاب فقط، ولم يتمكن البرنامج من الخروج إلى النور لاحقاً إلا بعد أن باتت الجامعة "الحكيمة" ترغم الطلبة ضعاف التحصيل ممن لم يتمكنوا من إيجاد مكان لهم في تخصصات أخرى على التسجيل فيه، وكأننا نحتاج إلى "فلاسفة" حُملوا رغم أنوفهم على دراسة الفلسفة!
سيكتشف شاعرنا الملهم وهو يحاور الطلبة أن كثيراً منهم قد أجبروا على دراسة تخصصات لا يعرفون عنها شيئاً ولا يودون أو يحبون دراستها، بسبب افتقارهم المسبق إلى الإرشاد والتوجيه، وبسبب إكراههم على التورط في دراستها من جانب السياسات الخرقاء والمجحفة للقبول! وقد يكتشف بروحه الشفافة أن كثيراً من أولئك الطلبة قد دخلوا الجامعة عبر قنوات وبوابات مشبوهة وجائرة لم تأخذ بعين اعتبارها إلا قدراتهم المالية أو وظائف آبائهم، متغاضية بصورة مريبة عن إمكاناتهم العلمية الفعلية، ومتواطئة للسماح لهم بالتطفل على العلم واستباحة عتباته المقدسة دون وجه حق!
وإذا ما قرر شاعرنا أن يواصل مسلسل تحاوره، ولكن مع الأساتذة هذه المرة، فسيجد بعضهم منشغلاً بلعب الورق على أجهزة الحاسوب المغبرة التي أعطيت لهم على افتراض ـ ساذج وخائب ـ بأنهم سيوظفونها في إعداد البحوث والتواصل مع أقرانهم في جامعات العالم المرموقة ومتابعة آخر الكشوف والمخترعات والمؤلفات في حقول تخصصهم! وسيصادف بعضهم منهمكاً في التخطيط لابتزاز طالباته والإيقاع بهن في حبائل سحره وفتنته! وسيضبط بعضهم مستغرقاً في التآمر على بعض زملائه والنميمة بحقهم، وسيرصد بعضهم يتطلع بقلق وأسى إلى هاتفه، وهو يحلم بأن يرن فيبشره أحدهم بأنه قد اختير لمنصب حكومي مرموق يمكّنه من الهرب من "المقبرة" التي يرى وكأن عمره يضيع فيها!
وفي حال تمكن شاعرنا من إيجاد أكاديمي ما يزال يحتفظ ببقية من اتزان واحترام جدي للعلم، فإنه سيلفيه مكبلاً بسلاسل القهر والإحباط وانعدام الأمل، بعد أن رأى الجامعات تتحول إلى "دكاكين" حقيقية يمكن أن ينشئها ويديرها التجار والسماسرة وأصحاب المزارع بمنطق الربح والخسارة وتنفيع الأقارب والأتباع والأشياع، فتخضع لمراكز قوى شللية لا تعبأ كثيراً بالعلم أو بمعايير الموضوعية والكفاءة والإنجاز!
عندها سيتذكر شاعرنا المجيد قصيدته الشهيرة التي أجزم بأن معظم الأكاديميين عندنا لا يعرفونها، وسيبدأ وهو يحث الخطى للعودة إلى قبره هارباً من فظاعة ما رأى باستحضار ذلك البيت الاستشرافي المعجز، الذي لم يكن يدري حين أبدعه بأنه سيعبر تعبيراً مفرط القسوة والمباشرة والدقة عن واقع العلم في بلده بعد عقود طويلة من رحيله، مردداً والعبرات والحسرات تخنقه: العلم في عمان أزياء ... العلم في عمان أزياء ... العلم في عمان أزياء....!


sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد