كيف نحافظ على الوطن - رؤية رجل في التسعين

mainThumb

22-08-2011 10:06 PM

ربطت العرب في القديم بين الحكمة والتقدّم في العمر، وفي عصر التكنولوجيا بدأ صوت الكبار يخفت، ويعلو عليه صوت الشباب، وقبل أيام زرت شيخا على أبواب التسعين من عمره، فذكّرني ما كنا نسيناه من حكمة الشيوخ، وما أحوجنا إليها هذه الأيام!

كنت حينما أزوره من قبل أتوقع ما سأسمعه منه.. الحديث عن ألم رجليه الذي لا ينتهي والذي لم يتوصل الأطباء بعد لمعرفة أسبابه إذ لا يرغب الإنسان أبدا بالاعتراف بسطوة الزمان على الرجلين وغير الرجلين من جسد الإنسان وعقله، وإذا أراد أن يزيد، فإنه يتحدث عن مشاكل الأولاد... لكنني وجدته اليوم مختلفا! كان مطرقا يطيل التفكير، وينفث الدخان بكثافة. فقلت في نفسي لا بد أن شيئا حدث.... سألته عن صحته وأحواله، فأجابني باقتضاب شديد على غير عادته،...فسألته مشجعة إياه على الحديث:

-       شو الأخبار؟

-       ما في شيء .

-       كيف ترى حال الأمة العربية؟

-       إن شاء الله خير.

-هل أنت مع التغيير؟

تحمس بعض الشيء وقال: آه طبعا.

-       وفي الأردن كمان؟

رشقني بنظرة غريبة لم أفهم كنهها، ثم قال:

- لا نحن بألف خير بالنسبة لغيرنا.

- كيف يعني؟

-على الأقل ملكنا معروف نعرفه، ونعرف أباه وجده، ليس كغيره لا نعرف من أين هبطوا علينا، فجأة أصبحوا حكاما على شعوبهم، وتحكموا بمصائرهم، وبمصير الأمة العربية كلها...حاكم ليبيا أضحك علينا العالم كله، والشعب التونسي المثقف  ذُلّ لليلى الطرابلسي وأهلها...،ومصر واليمن..... كانوا ينتقدون الملكية والتوريث وأصبحوا اليوم يسعون إليه بكل ما يملكون وما لا يملكون! ملوكنا متعلمون ومثقفون ويبيضون الوجه، والعالم كله يحترمهم.... ويكفي أنهم لم يتورطوا في عرض أو دم....... وعندهم مرونة ....يستمعون ويفهمون.... ويتجاوبون.

 -   أفهم أنكَ مع الملكية؟

-       أحسن من غيرها، وأسهل على الناس... لا نريد كل يوم الابتلاء بحاكم نوع. وعاد إلى دخانه ينفث منه حبالا طويلة.

 قلت في نفسي من مثله تعرف حقيقة تفكير الأردنيين، فهذا الشيخ قد عايش الحكم التركي، وشارك في حروب 48، و67 و73 وما بعدها، وما بينها من حروب الاستنزاف.... وهو ليس طامعا بمنصب، ولم يبق في جسده مكان لمنقل شبيحة أو بلطجية أو غيرها من التسميات التي لا أحب أن تُطلق على أردني أيا كان، فعدت إلى محاورته:

- كيف ترى الأمور عندنا؟

- الله يستر، وصمت طويلا لا تسمع ولا ترى منه سوى سلسلة حبال الدخان الخارجة من كل مكان في وجهه.

- قال مكررا: الله يستر، ثم تابع قائلا: كلنا نحب الملك ولكن!

- لكن ماذا؟

- بعد صمت طويل كرر العبارة، متمما إياها هذه المرة بقوله: لكن ملاعين الحرسي( آثرت أن أستخدم عبارته مع أني صدقا لا أعرف معناها بالضبط) خربوا عليه وعلى البلد كلها.

- مَن ملاعين الحرسي؟

-  (بعض) مَن هم حوله، ويحاولون إبعاده عن الناس!

 - لكنه قريب من الناس؟

- صحيح، ولكن الأمور كان ممكن تكون أفضل، فبيع الأراضي، ومنجزات البلد التي شجع عليها ملاعين الحرسي، وزينوها له أساءت للعلاقة...والمديونية الضخمة وووو... وكل هذا الفساد المسكوت عنه منذ سنوات.. كان همهم إبعاده عن الناس والاستفراد بالبلد.... كثير منهم تجار فاسدون همهم سرقة البلد، لا يهمهم وطن ولا عرش، ولا ملك، ولا شيء..... لا يعرفون الأردن، ولا الأردنيين.... ولا يريد الأردنيون أن يعرفوهم ....من يفهم عقلية الأردنيين يعلم أن بيع الأرض عند كثيرين منهم أخطر من بيع العرض...هكذا الناس تفكّر... من يفهم بالسياسة ويحب الملك والوطن يعلم أن التفاف الشعب حوله، وحبهم له هو الدرع الحصين له من كل المؤامرات الخارجية والداخلية..... وأحسن من كل مال الدنيا....  وأحسن من أميركا وغيرها؛ لأنها لا تخدم سوى مصالحها، هذا مبارك خير مثال،  ومن قبله شاه إيران...وغيرهما كثير، لو كان  كل مَن حول الملك من الشرفاء المخلصين للوطن ما حصل الذي حصل... والله كلنا نحبه ونحب أباه وجده ولكن!

- ولكن ماذا؟

- المتقاعدون العسكريون مثلا أبعدوهم...بل إن أمراء الجيش الأردني أصبحوا تحت خط الفقر...معظم بيوت البلد فيها غير متقاعد....لمصلحة مَن تدمير هؤلاء بعدما بنو الوطن، ودافعوا عنه وعن فلسطين بدمهم......عمك محمد نجيب استشهد في شبابه مدافعا عن فلسطين، وترك عائلة خلفه...الله أعلم كيف عاشت! وخالك محمد استشهد في معركة الكرامة دفاعا عن الوطن ترك خلفه زوجتين وتسع بنات....قال متحسّرا:  الله أعلم كيف عشن!  وخالك عبد الحميد  نسيتي معاناته منذ أكثر من 40 عاما وهو يتردد على المستشفيات إثر إصابته بانفجار لغم عندما كان الجيش الأردني يقوم بتنظيف الأرض من الألغام التي زرعها اليهود...والأطباء يقولون له: رجلك بحاجة إلى قطع، وقطعوها قبل سنتين، وما زال يتردد على المستشفيات لأجل تركيب قدم صناعية ولم يُوفق إلى الآن! وقبل أيام قال له الطبيب: لا بد من قطع جزء آخر منها! ومثله كثير ....

- لا حول ولا قوة إلا بالله!

 عاد إلى دخانه وصمت طويلا، ثم قال: مَن أولى بالعلاج بالخارج هو أم هذا شاهين الفاسد؟..... من هرّب شاهين؟!  أين هيبة الدولة؟! من أولى بالبلد هؤلاء الذين لا نعرف من أين جاؤوا ولا كيف، أم أبناء الوطن الذين حملوه على ظهورهم، ودافعوا عنه بأرواحهم، وبنوه بعرقهم.. مَن...؟!.. البطانة الصالحة مهمة جدا، والعين البصيرة مفيدة، ما في حاكم يرى كل شيء ... لكن للأسف عيون  كثيرين ممن هم حول الملك لا ترى إلا مصالحها... لا يهمها لا مصلحة ملك، ولا شعب، ولا وطن.... المهم مصالحهها هي؛ سلب ونهب، ومشاركة الملك في التوريث ...كل واحد منهم يريد التوريث لأولاده! حتى الفساد  صار وراثة.... الملوك بشر يجتهدون، فيصيبون، ويخطئون لو أراد الله لهم أن يكونوا ملائكة لجعلهم...

- والحل يا حجي؟

الحل لازم يكون بسرعة قبل فوات الأوان ونصير مثل غيرنا، شايفة حال سوريا وليبيا.... والمظاهرات عندنا كل جمعة مطالبها تزيد.

-       وما هو برأيك؟

-       يجب أن تعود هيبة الدولة، ومحاسبة الفاسدين واسترجاع ما أخذوه.

-       هم يحاولون.

-       تحويل ملفات الفساد إلى الهيئة زادت في حنق الناس، ولم تخفف من احتقانهم أبدا؛ لأن الكل يرآها مسرحية مأساوية، بل أكثر من ذلك عرف الناس كم بلغ حجم الفساد عندنا، ويتساءلون لماذا سكتوا عليه إلى أن ضاع البلد، وحمّلوا الناس فوق طاقتهم؟! لماذا؟! ولمصلحة من؟!

ويجب تشكيل حكومة إنقاذ وطني من الكفاءات ومن الوجوه الجديدة....مشهود لها بالكفاءة والنظافة... لا يجوز أن يدخلها أي فاسد أو من له علاقة بالفساد من قريب أو بعيد...  يجب أن يكون الإصلاح حقيقيا....الناس أصبحت واعية .... لعل وعسى الناس يهدأ الناس... والله يرحمنا برحمته.

ودعّت الشيخ وخرجت وأنا أكاد أجزم بأنه لا يوجد بيت من بيوت الأردنيين الطيبين من جنوب الأردن إلى شماله إلا وفيه  ذكرى شهيد أو مصاب، وكنت أتساءل: كم عدد الأردنيين الذين لا يشغلهم سوى هم الوطن  دون خوف أو طمع مثل هذا الشيخ ؟!

amalnusair@hotmail.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد