الإصلاح يحتاج إلى الإرادة .. فهل امتلكناها؟!!

mainThumb

31-08-2011 04:00 PM

الإرادة كلمة السرّ التي مَيزتْ جنس الإنسان، رفعته وأعلت مقامه بين الخلائق، واستحق بها ذلك التكريم وتلك المكانة العليّة: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ))  .

والكائن البشريّ إما مُريدٌ للخيرِ نالَ الشّرف واستحق التكريم، أو مُريدٌ للشرّ ضَلَّ الطريقَ، وهبط بعد عُلوٍّ إلى الدرك السّحيق ليصير في عداد الإنعام بل أضل سبيلا، أو فاقدٌ للإرادة، مُعطل لها، مُستحق للوم، ومُؤاخذ بالعجز: (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ؟؟ قَالُواْ: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ، قَالْوَاْ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا؟؟ فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً))   .

انتهى شهر الصّيام ولوَّحَ بيد الرّحيل، وكان الشّارعُ - سبحانه - علَّل للصائمين حِكمة الصّيام وغايتَه بقوله: (( لعلكم تتقون))، والتقوى: وِقاية النفس، وحِفظها مما يُوقع في الإثم، ويكون ذلك بالامتناع ، والامتناع فعل لا يتحقق إلا بامتلاك الإرادة، فكانت الغاية النهائية من الصيام: امتلاك الإنسان زمام نفسه، وتحكّمه في سلوكاته، وضبطه للممارساته وفقا لضوابط الشريعة.
الإرادة إذن عضلة معنوية تتحكم بالرغبات الحسية وتهيمن عليها وتؤهل النفس وتوجه طاقاتها، وترتقي بوظيفتها، لتضبط ميزان القيم والأخلاق والقوانين الاجتماعية الناظمة لعجلة الحياة، ومن أراد التمام لصومه لم يغنه ضبط الحِسّيات وحدها حتى يضبط معها المعنويات والأخلاقيات، ((  ــ  من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه‌ ))  .
يرحل رمضان، ويُباح الفِطر على الحلال الحِسيّ، لكن الاجتماعي القيمي يجب أن يبقى تحت إمرة الإرادة، فلا ينبغي أن تُترك النفسُ مطلقة العنان في سعيها وعملها بلا ضوابط، ولا بد لها من الإرادة المسيطرة على ألف باء السلوك، وقد تدربت عليها شهرا كاملا.

المعاني الهابطة، والمشاعر الْمَغشوشة، والأحاسيس الْمُصطنعة، والأماني الْمُخادعة، والأطماع الْمُقنعة، والنفاق الْمَسلكي - محرمات لابد أن تبقى النفوس صائمة عنها، ومتعالية عليه،  ممتنعة أمامها لا تلين لها ولا تطاوع،  والنفس المتردية في واحدة منها نفس رخصة شاهَ وجه صاحبها، وصار سنا في دولاب الفساد، ومعولا بيد الهدم، وكان سُبّةً في جبين الفضيلة.
فكيف لمن خُلق حرا كريما، أنْ يرضى بالعبودية ويسعد بالمهانة، ويقنع من فضائل الحياة بالسلامة من تكاليفها؟؟!!!
إنّ مِنْ أكثر الخلائق بؤسا، وإثارة للشفقة أولئك الذين هُيّئت لهم أسباب الارتقاء، وفُتحت لهم آفاق الانعتاق، وعُبّئوا بإرادة الفعل، وأُتِيحت لهم فرصة التغيير، ثم هم مُتثاقلون راضون ببؤسهم، مُغتبطون بفقرهم.

رثى محمد إقبال  لهؤلاء، وبكى عليهم بدموع ساجمة، وألحّ عليهم بالنداء، واستفزّ الكرامة الغافية، والإرادة المخدرة فقال:
إلامَ العيشُ في رَثِّ الإهاب!! *** إلامَ تَعيشُ نملا في التّرابِ!!
فطر كالصقر معتزماً وحلّقْ!! *** إلامَ أسيرُ حبٍّ  في اليبابِ!!

فإلى متى يرضى الإنسان بؤسه، ويرتدي عاره، ويبقي أسيرا يستجدي، وبإمكانه أن يملك ويسود؟؟!!!
ثم لوّن لهم أساليبه، وتَفنّنَ في أدوات إقناعه، ليفهموا مقصده، وينتبهوا إلى غايته التي يُنادي لها ويُحرض عليها، ومضمونها:
" أن قيمة الحياة أن تملك أنت باستحقاق لا أن تعطى بامتنان، وأن تقرر أنت ما تريد، لا أن يُراد لك ما تقرر، وأن تقول ما أنت مقتنع بأحقيته لا ما يملى عليك قوله وهو باطل ".

قام الفيلسوف يقرب المعني ويضرب الأمثال، فروى حوارا بين نجمين سابحين في فضائهما الأزرق بلا انتهاء، لكنهما مُتبرمان بحالهما، كارهان للحياة وإن بدت حرة طليقة، ويعتبران ذلك عبئا يتمنيان معه العدم الأبدي، ويحسدان ابن آدم على امتلاكه زمام نفسه، وقدرته على تشكيل حياته فقال:
لَهذا العبْءُ مَحْمَلُه شديدُ *** فَليتَ وجودُنا عَدَمٌ أبِيدُ
كرهت القبّةَ الزّرقاءَ أوجاً *** " حضيضُ التُّرْبِ خيرٌ لو نريدُ "

نعم إنّ قيود الذّهب لا تُبطل معنى الأسر، ووفرة العلف لا تعكس رحمة الجزرا، وأوسمة المكارم لا تُذهب مشاعر الهوان، والعيش بين النجوم قهرا أحب منه عيش التراب اختيارا.

إنه ينادينا إلى كلمة السر التي تجعل الإنسان أنسانا وتعطي للحياة قيمة وللعيش معنى: إنها الإرادة الحرة، فهل امتلكناه


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد